توصيات أصحاب المَجالِس «1»
منهاج السالك الحسيني
الجزء الثاني: توصيات أصحاب المآتم وأولياء المَجالِس/ الوقفة الأولى.
افتتاح:
في الموسم العاشورائي السابق، تَقدَّم في القِسْم الأول، والذي كان مختصاً ب’’توصيات المستمِعِين‘‘، تَقدَّم في عنوان ’’النَّظْم والسَّجاىا والممارَسات المعاکِسة‘‘ الكلام عن نَظْم الأمور وقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في وصيته لَمّا ضربه ابن ملجم التي ذَكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه وأبو الفرج الأصبهاني في مَقاتل الطالبيين والشريف الرضي في النهج..، قال صلوات الله وسلامه عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أَوصَى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب... [ثم قال للحسن والحسين سلام الله عليهما:] أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بَلغهم كتابي هذا مِن المؤْمنين بتقوى الله ونَظْمِ أَمْرِكم..»، وتَقدَّم معنى النَّظْم وأن نَظْم أَمْرِكم يراد به في اللغة كما تقول: نَظم الأشياء نَظْماً أي أَلّفها وضمّ بعضها إلى بعض. والأمر: الحال والشأن. والمراد: رَتِّبوا أحوالكم وشؤونكم ونظِّموها. والإمام عليه الصلاة والسلام قال: أُوصِي من بَلَغه كتابي هذا مِن المؤمنين، فإن كُنّا حَقّاً منهم؛ فعلينا العمل بالوصيّة، خصوصاً وأنّه سلام الله عليه يبلغنا وصيّته وهو غارقٌ بدمه مشارِفٌ على الفِراق وفي أشد حالات الألم؛ مما يَكشف لنا عن شدة أهميّة هذا الأمر وضرورته فهو يُذَكّرنا بوصية رسول الله ﷺ وهو على فراش المرض في آخر لحظات حياته الشريفة؛ تلك الوصية العظيمة التي أَصَرَّ ﷺ إلا أن يَبوح بها مجدَّداً رغم عُسْرِ المَوقف وغَلَبةِ الوَجَع.
وتَقدَّم أنه لتنتظم أمورنا يَلزم على كل فردٍ منا معرفة ’’ما له وما عليه‘‘، وأننا إذا نَظرنا للواقع لنَلحظ ما لنا وما علينا؛ فإنه لا بُدّ مِن نَبْذِ السلوكيات الخاطئة الحاصلة وترميم الطريق وتمهيدها وإحلالها النَّشْأةَ الصحيحة. وهذا النَّظْم كما يَتوجه للمستمِعِين كذلك يتوجه بصورة رئيسية أيضاً لجميع الجهات التالية، كلٌّ بحسبه كما يأتي بيان مَوارده؛ ومِن أهمهم أصحاب المآتم والمَجالِس جزاهم الله خيرا؛ حيث تَلزمهم جملة من المسؤوليات الجليلة:
أولُها: ما يَلزمهم مِن ضابطةٍ في أنفُسهم:
حيث يتوجب على أصحاب المآتم وأولياء المَجالس المكرَّمين آدابٌ ضرورية تَكمن في:
فإنّ الإخلاص في عملهم رَكيزةٌ ضروريةٌ لقَبوله وتوفيق العامل منهم وعدم ضياع مجهوده وأَتعابه وعطاءاته؛ وذلك بأن تَكون إقامة أفراح أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أو أحزانهم قربة لله سبحانه وتعالى وحده، فلا يُفسد العمل بالرياء والعُجْب وطلب السُّمعةِ والشُّهرةِ الممقوتة والأغراض الذميمة..؛ فمن يَفتتح مثلاً مَجلساً بغرض نفسه ليُذَلِّل له أعناق الناس، أو يُذِل به ضيوف العِلم الذين هم ضيوف خاصين لله، أو ليَتَبختر عليهم، أو لتصفية حساباته الشخصية مع قَراباته ومعارفه، أو ليَنشر الأفكار الضلاليّة يَستثمر بها منفعةً ذاتيةً له أو لجهةٍ أخرى يَقتات منها على حساب الدِّين وإنسانية الإنسان.. فهؤلاء أَشَرُّ عند الله مِن ذلك الفرد المستمِع لغرضٍ فاسدٍ محدودٍ في نفْسه..؛ ذلك لأن هذا يضل بالجُمْلة وذاك حسب الفرض - بالنَّظر الأَوَّلِي - ضالٌّ بحدوده الخاصة وإن كان كلاهما فاسدَ الغرض محتمِلاً للإثمِ والجَريرةِ عنده عز وجل مستحقاً للطردِ من ساحة الرحمةِ والمِنّة لائقاً به خِذلانه وعقوبته تَقدَّس اسمُه.
فكل ما تَقدَّم في عنوان ’’أصل الغرض وحدوده وضوابطه‘‘ هم أيضاً مَعنيّون به حتماً.
واعلمْ أن الرِّياء سيُّدٌ في كل غرضٍ فاسدٍ على هذا السَّبيل؛ ذلك لأنّ تمرير أي غرض فاسد من خلال هذا الطريق المقَدَّس يَحتاج - في ظل إبطان فَساده - إلى إظهار وجه الإخلاص لله تعالى أمام الناس ليتقبلوه؛ فوجْهُ الله سواء أراده الفاعل مع ضم النِّيّة الفاسدة إليه بنحو الشراكة، أو لم يُرِده أصلاً؛ فهو في كل من الحالتين يَكون استعمَل الرياء بإظهاره الحُسن للعِباد وإخفائه الغرض الحقيقي القبيح في باطنه المُخْفَى عنهم؛ فإنّ كلّ حسنة لا يُراد بها وجه الله تعالى فعليها قُبْحُ الرياء وثمرتها قُبْحُ الجزاء؛ فاجهد نفسك واحذر أن تَخبث سريرتك طمعاً في الدنيا على حساب الدِّين وكرامة الناس وإنسانيتك الثمينة فيعُمّك بلاءٌ لو ناديت الله فيه نداء الغريق ما الْتفت إليك؛ فإنه وردَ في موَثَّق السَّكوني عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام يَنقل كلاماً لرسول الله أنه ﷺ قال: «سيأتي على الناس زمان تَخبث فيه سرائرهم وتَحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا لا يريدون به ما عند ربهم يَكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف، يعمّهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم» [1] .
قال دعاء الغريق! دعاء الضعيف المستكين، دعاء المتضرِّع الوَجِل الصادق في ندائه الصارخ بكل وجْدانه المستنجِد بكل جَهْدِه المستغيث لا أمل له غيره! إنّ الرياء أيها العزيز، هذا المَهْلَكة الزَّلِقة، هذا الجُرُف الهاري الخَطِر، لا يمْكن لأمثالي وأمثالك أن يُدْرِك مدى ظلْمائيته المخيفة النافذة صعوداً ونزولاً في جميع عوالم السلوك والوجود؛ لذا هو أخْوَف ما خافه النبي الأعظم ﷺ على أَتْباعه، وقد ورد في الأخبار الشريفة «إنّ أَيسر الرياء شركٌ بالله عزّ وجلّ» [2] ؛ أي أَقَل الرياء هو شِرْك؛ ولهذا جاء في مَروي أبي حمزة، وهو خبرٌ معتبَر، عن علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام يَذكر صفات المؤْمِن بأنه «لا يَعمل شيئاً من الخير رياء» [3] ؛ ذلك لأن الرياء لا يَجتمع مع الإيمان أبداً، ألا تَرى على هذا أُثِرَ عنه ﷺ قوله: «استعيذوا بالله مِن جُبِّ الخزْي. قيل:
وما هو يا رسول الله؟ قال: وادٍ في جهنم أُعِدَّ للمُرائين» [4] ، حتى كان إمامنا علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام يقول في ظُلمة كل ليلة مِن سَحَرِ شهر الله المعَظَم: اللهم «ابرأْ قلبي من الرِّياء»!، وفي دعائه للرَّجُل من أهل الثُّغور: اللهم «واعزِلْ عنهُ الرِّياء»؛ ما ذلك إلا لأن الرياء يدَمِّر حتى الأعمال العظائم؛ فهو يدمِّر حتى أعمال المجاهدين في سبيل الله وقضايا دِينه المرابِطين في مقدِّمة جَبَهات الوَغَى والقِتال الباذلين أرواحهم لحماية الأرض والوطن وحياة الناس وأمنِهم المضَحّين براحتهم لاستقرار الآخرين في هذا السبيل القدسي.. إلا أنهم خَلطوا هذا العمل العظيم بهذا الخَبَث الجسيم أو اتخَذوه كافّة مصلحةً خاصة لهم أو لِغُواةٍ آخرين.. فلا عَجَبَ بالتالي أن يَرِد في الموثَّق عن رسول الله ﷺ قوله: «إنّ المَلَك لَيَصعد بعمل العبد مبتهِجاً به فإذا صَعد بحسناته يقول الله عزّ وجلّ: اجعلوها في سِجِّين إنّه ليس إيّاي أراد بها» [5] .
ثمَّ وطِّنْ نَفسَك على أنه كما ليس الرياء من صفات المؤمِن فإنّه أيضاً كفيل بأن يَخلع بقايا الإيمان من جَوانحه وجوارحه؛ ذلك لأنه يَصير بفعله هذا قد سَحق إيمانه تحت قدمه، لم يَكْتَرِث؛ فسُلِبَت عنه هذه النعمة الكبرى فلا يَعود يبصرها ولا أَثْرَ فِعلي يبقى لها في عمله حتى لو أدركها إدراكاً ما، كما أنّه بخداعه الناس مُظْهِراً لهم الوجه الحَسن مع باطن الغرض القبيح يَكون قد خادع الله وما خَدَع إلا نفسَه البائسة المسكينة التي ستُنادَى أمام الخلائق بأقبح الأسماءِ وأخزاها يوم المَحشر، ذلك اليوم الذي تَكون فيه الفضيحة الواحدة أشد وآلَم من فضائح الدنيا أَجْمعِها؛ حيثُ رُوي بسندٍ معتبرٍ عن الصادق رَوَى عن أبيه الباقر عن جدهما رسول الله ﷺ أنه «سُئِل:
فَبِمَ النجاة غداً؟ قال: إنّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنّه من يخادع الله يخدعه وينزع منه الإيمان ونفسَه تُخدع ولو بشعرة. قيل له: فكيف يخادِع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله عز وجل ثمّ يريد به غيره، فاتقُوا الله في الرِّياء فإنّه الشرك بالله، إنّ المرائي يُدعَى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر حَبِطَ عملُك وبطلَ أجرك ولا خلاص لك اليوم فالْتَمِسْ أجرك ممن كنت تعمل له» [6] ؛ أفلا تَرى كيف قُرِنَتِ النجاة بِخَلاء النفس من ظُلمة الرياء وأهواله؟
فالْتجِئْ أيها العزيز لله، اطلبْ منه تسديد أعمالك وإعصامك من هذا الداء المُميت المدمِّر للمَصير، استعِنْ بسيّد الوجود كُلِّه، ابتهِلْ إليه كما كان يَبتهِل إليه إمامنا زين العابدين سلام الله عليه في مناجاته الإنجيلية العظيمة؛ قُلْ بقلبٍ خاضع ونفسٍ تَسوقها الرهبةُ والخشية: «سيّدي.. اجعلْ ما اعتقدتُه مِن ذِكرِك خالصاً مِن شبه الفِتَن، سالماً من تَمويهِ الأسرارِ والعَلَن، مَشُوباً بخشيتِكَ في كلِّ أَوان، مُقَرِّباً من طاعتِكَ في الإظهارِ والإبطان، داخلاً فيما يُؤيِّده الدِّين ويعصمه، خارجاً مما تَبنيه الدُّنيا وتهدمه، منَزَّهاً عن قصدِ أحدٍ سِواك، وجيهاً عندكَ يومَ أَقومُ لكَ وألقاك، محَصَّناً من لواحِقِ الرِّياء، مُبَرَّأً من بَوائقِ[7] الأهواء، عارجاً إليكَ مع صالحِ الأعمال، بالغُدُوِّ والآصال».
فينبغي أداء المَهام المتعلِّقة بهم دُون مَلَلٍ وضَجَرٍ وفُتور؛ فإنّ الحماسة في بادئ الأمر والانتكاس والتراخي في وسطه وفي آخره خلاف الثَّبات والهدفيّة التامة، والله يحب إذا عَمل أحدٌ عملاً أن يتمّه.
لكنّ الأعمال على أَوْجُهٍ؛ فمنها ما لو لم يواصَل إلى منتهاه لم يُفسَد كُلُّه؛ وذلك كتقديم أربع محاضرات ذات مواضيع مختلِفة من أصل عشر كان مخطَّط لها منعقدة عليها الإرادة منذُ بادئ الأمر؛ فإنّ النَّقيصة هنا بِسِتٍّ لا تهدم الأربع. هذا وجهٌ من الوجوه، ومن وجوه الأعمال ما لو لم يواصَل فسد؛ وذلك كتقديم مسرحية علمية ذات أحداث مترابطة تراد لعِبرة لا تتقوَّم ولا تُفهَم إلا في طَوْر كُلِّي أحداثها المتسلسلة؛ فإنّ نُكوث الإرادة عن الغاية المشروع بأدائها والتراخي في وسط العمل والنقيصة العارضة عليه هنا تهدم العمل بأجمعه!
وأنت عليك أن تتساءل؛ ما العِلّة وراء تَقهقرِك وخمودِ حماستك ونُكُوصِ جوْلتِك؟ والسؤال عن العلة على نحو النقصين، النقص المُخِل بما أُنجِز مِن عمل، والنقص الغير مخل بما أُنجِز من العمل، والكلام ليس عن الأسباب القهرية الخارجة عن مَقدرتنا؛ فهل الضعف والانهزام وقلة الصبر هو العلة؟ أم اللامبالاة والإهمال؟ أم بُطْلان النِّيّة بادئاً أو لاحقاً كأنْ كنت تريد جاهاً فلم تحصل عليه وتريد كثرة حضور فلم تَكُن؟ أم لبُخلٍ جعلك تتراجع وتتحسر على ما أنفقت؟ أم لوسوسة من صديق أو أخٍ ثَبَّطَ لك الخير وزَهَّدك فيه وصَغَّر لك الغرض العظيم؟.. فإذا كنت تريد خدمة الناس والمساهمة النبيلة في المجتمع وكان قصدك لله تعالى فلماذا حدث منك التوقف؟! علَيَّ في هذه الحال أن أراجع نفسي وأبحث في نواياي.
أما الأسباب الخارجة عن إرادتنا؛ فمنها ما يُمَكَّن لنا بشيء من المقاوَمة والمجهود فنَصل معها للهدف المنشود، و«أَفْضَلُ الأعمال أَحْمَزُها» كما في الرواية المشهورة التي كثيراً ما يستدل بها الفقهاء أعلى الله مقاماتهم؛ أي أفضل الأعمال أكثرها مَشَقّة؛ ذلك لأنها أعمال لا يَقوم بها إلا الأقوياء، لا يَقوم بها إلا كِبار الإرادات جميلي الصنائع، كن عملاقاً متألِّقاً لا تقطع الناس عما وهبك الله إياهُ من الخير لهم واعلمْ أنّ الله يُحِبُّ الصابرِين ومعهم ويوَفِّي الصابرينَ أُجورَهُم بغَيْرِ حِساب[8] . وفيما عدا ذلك فأنت معذورٌ مأجور لك الثواب كاملاً تاماً لا ينقصك منه مقدار ذَرَّة.
يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة القادمة.