الفقه التاريخي الموروث
عندما تقرأ كتاب العقل الفقهي لعباس يزداني 'تعريب أحمد القبانجي' تجد بأن الكاتب في بعض مواضع من كتابه صدى لأصوات بعض الغربيين الذين لديهم حساسية وموقف سلبي من الإسلام، حيث بذلوا جهدا جهيدا وشحذوا الطاقات وسلكوا مختلف السبل لإبراز الفقه الإسلامي بأنه تاريخي موروث رجعي متخلف، لا ينظر إلى مسائل الإنسان وحاجاته بعين اليوم والحاضر المعاصر، بل هو زاد القدماء الذي تأنفه نفس الإنسان العصري، ولا يوظف ما وصلت إليه الإنسانية من إبداعات في شتى العلوم والمعارف الحديثة، ولا يسير وفق السيرورة التاريخية والصيرورة الاجتماعية الإنسانية، بعيد كل البعد عن مواكبة الواقع الموضوعي المعاش لأنه مكبل نفسه بقيود القراءات القديمة والمعالجات والمقاربات التي أكل الدهر عليها وشرب.
قد تُشكل على أصحاب هذه النظرة القاتمة والسلبية عن الفقه الإسلامي، بأن هذا القول لا ينطبق على جميع المدارس الفقهية الإسلامية، حيث ثمة مدارس فقهية فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه، ووظفت العلوم والمعارف الحديثة في اجتهاداتها. فمثلا المدرسة الفقهية الإمامية رسمت لها خارطة طريق في اجتهاداتها لم تغفل فيها عنصرين أساسين، وهما: فقه موروث منسجم مع التنزيل وعنصر الانسجام والتوافق مع الواقع الموضوعي وعدم إغفال الإشكاليات الملحة المتولدة في الوقت الراهن، والتي تتطلب معالجة ملحة وتأسيس جديد لا يخرج عن روح التشريع ومرتكزاته الثابتة والاعتماد على عمومات وإطلاقات النص.
وأصحاب هذه النظرة تجدهم في كل محفل ومقام يعرضون هذه البضاعة - المتمثلة في إقامة الحدود والتعددية الزوجية والقوامة وإرث المرأة وتزويج ولي البنت الصغيرة لها - كمادة تشنيع وتشويه ولتدليل على أن التشريع الإسلامي بمنأى عن العقلانية والأنسنة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحرية والعدالة ونحو ذلك من المفاهيم التي يتطلع لها الإنسان كإنسان.
ولكون الموضوع ذا ذيل طويل سأحاول مقاربة تهمة واحدة من التهم التي يروج لها أصحاب النظرة السلبية اتجاه التشريع الإسلامي، وهي تهمة تزويج ولي البنت الصغيرة ذات السنوات التسع.
هذه الرؤية قد يتلقفها البعض، فيرسم صورة قاتمة عن الفقه الإسلامي، ويضعه في دائرة الاتهام بالتخلف عن ركب الإنسانية والتطور الحضاري. فالإنسانية تحلق بعيدا بإبداعاتها وتطورها الفكري وتقدمها التكنولوجي، والفقه الإسلامي مازال يشرب من مياه الموروث الراكدة الأسنة ويعتمد على أدوات القدماء المعرفية البالية. فقه تاريخي لا يقيم للأنثى وزناً ولا قيمةً، بل جعلها مادة لإشباع شهوات الذكر دون اعتبار لإنسانيتها وكرامتها وحقوقها وحاجياتها العاطفية والجنسية والجسدية، بل هي كائن تابع للرجل تدور معه حيثما دار.
واستمرار فقهاء هذا العصر على فتوى جواز تزويج البنت الصغيرة دليل على تشبثهم بالأدبيات التراثية التي لا تنسجم وروح العصر وعلومه ومعارفه، وإبراز الدين بمظهر المعادي للعقلانية الذي ليس على وئام وتصالح مع معطيات العلم ونتاجه. وفتاوى تزويج الصغيرة برهان واضح على العقلية الفقهية المنغلقة التي تتعاطى مع إنتاجات الإنسانية وإبداعاتها بكل استخفاف، وعدم اكتراثها بنتائج الدراسات الطبية الحديثة.
أنا سأحاول مقاربة الموضوع بموضوعية بقدر المستطاع دون أن أحمل معي خلفياتي الفكرية والثقافية والأيديولوجية لأبتعد عن الأحكام المسبقة التي تتوافق وخلفياتي الفكرية. ولتحقيق ذلك لجأت إلى إثارة مجموعة من التساؤلات طرحتها على نفسي وهي: - هل التشريع الإسلامي قدم رؤيته في موضوع الدخول بالصغيرة على نحو الإطلاق أم قيد الموضوع بقيود؟
التشريع الإسلامي قيد موضوع الدخول بالصغيرة بقيود وضوابط تلحظ مصلحتها وحاجتها الطبيعية للزواج، يقول سماحة السيد محمد سعيد الحكيم في الأحكام الفقهية: «ليست البنت بضاعة بيد الأب والجد يملكان التصرف فيها تبعا لرغبتهما أو للعادات والتقاليد، بل اللازم عليهما ملاحظة مصلحتها وحاجتها الطبيعية للزواج. وتسقط ولايتهما عليها مع منعهما لها من التزويج بنحو يضر بها عرفا».
- هل يجيز الشارع المقدس عقد الزواج الذي فيه ضرر على البنت الصغيرة؟
الشارع لا يجيز أي عقد فيه ضرر على أحد طرفي العقد.
- هل يجيز الشارع لوليها تزويجها دون مراعاة مصلحتها الجسدية والنفسية والعاطفية؟
بالطبع لا. الشارع لم يقرر ولاية الأب والجد عليها في أمر تزويجها إلا لحرصه عليها، لعلمه بأن هؤلاء أكثر الناس حرصاً على مصلحتها وخوفا على سلامتها وصحتها.
أ ليست ولاية الأب والجد على البنت الصغيرة تسلب البنت إرادة الاختيار؟
صحة العقد يتوقف على رضاها وقبولها، فقبولها مقوم أساسي في صحته، فإرادتها حاضرة في المشهد وليس كما تصور البعض من غياب إرادتها وهيمنة سلطة ولاية الولي «الأب والجد».
«لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله أن البكر تستحي، قال: رضاها صمتها».
أمام هذين المنعطفين الهامين في بناء العقد الشرعي: ولاية الأب والجد ورضاها وقبولها، نعرف بأن رؤية الدين لا تتعارض مع رؤية العلم التجريبي. فإذا كان الطب في الوقت الحديث قدم رؤيته بأن الطفلة ذات السنوات التسع غير مهيأة للزواج، فإن الإسلام سبقه في ذلك من خلال وضعه إجراءات احترازية تراعي سلامة البنت وصحتها المتمثلة في ولاية أشد الناس حرصا عليها وأكثرهم عملا على تحقيق مصلحتها بالإضافة إلى قبولها ورضاها.
وقد يُشكل البعض ويقول: بأن ثمة أولياء لا ينظرون إلى مصلحة البنت بل ينظرون إلى مصالحهم. الشارع عندما وضع قيد الولاية في بناء العقد وضعه بلحاظ النوع وليس بلحاظ الفرد حيث الأغلب يعملون على تحقيق مصالح بناتهم إلا الشاذ النادر. وفي ختام هذه المقاربة أقول: ليس من الواضح التخاصم بين التشريع والمعطيات العلمية الطبية، بل نستطيع أن نقول بأن معطيات العلم لم تكن منصة تأسيس لحكم جديد بل جاءت مترجمة وصدى لإجراءات الشارع الاحترازية التي شرعت من عهد النص.