دَوْرُ اللُّغَةِ فِي فَهُمِ النَّصُّ الدِّينِيُّ فِي فِكْرِ السَّيِّدِ كَمَالِ الْحَيْدَرِيِّ
المُقَدَّمَةُ
أثارت الأفكار التي طرحها السيد كمال الحيدري - حفظه الله - ضمن دروسه عن فقه المرأة، والتي تطرق فيها لنقد قواعد اللغة العربية لبعض ردود الأفعال المستنكرة والمستهجنة، مما جعل بعض النقاد المهتمين بهذا الأمر للتصدي للرد بهدف بيان عدم صحة ما قدمه في هذا الشأن.
والملاحظ أنّ بعض هذه الردود لم تكن موفقة في مجملها، وذلك لأمرين:
أولاً: أنّها قامت بشخصنة الموضوع من خلال كيل العديد من الاتهامات والإساءات الشخصية له، حيث يظهر ذلك جلياً لمن يطلع عليها، مما يدل على أنّ أصحابها انطلقوا في نقدهم من خلفيات سابقة، والتي هي في الأعم الأغلب لا علاقة لها بأطروحاته الخاصة باللغة.
ثانياً: أنّها اشتملت على مناقشة بعض أطروحاته، ولكنها لم تُلامس جوهر ما طرحه، وذلك لسبيين وهما:
- الأول: أنّ هذه المناقشة شملت أموراً خارجة عن مورد النزاع كما يُقال، وكمثال على ذلك نجد أنّ السيد الحيدري قد بين وبشكل واضح وصريح في أكثر من مورد أنّ كلامه معني بقواعد اللغة الأساسية، وليس بما قدمه اللغويون من توجيه وتأويل وتبرير لعدم اتباع هذه القواعد في بعض الحالات، فإذا ببعض النقاد يركز نقده على ما قُدم من توجيهات وتأويلات، ويُصور الأمر وكأنّ السيد الحيدري كان جاهلاً بها.
- الثاني: أنّها اشتملت على دعاوى غير مبرهنة، وكنموذج لذلك هو قول بعض النقاد أنّ السيد الحيدري أخذ كلامه حول هذه المسألة من الدكتور محمد شحرور، وأنّه أقدم على نقد اللغة نتيجة ضعفه بها وجهله بقواعدها وأصولها، وغيرها من الأمور التي اشتملت عليها بعض المناقشات؛ دون أنْ يقدم أصحابها أية شواهد محكمة لإثباتها.
لذلك سأسلط الضوء في هذا البحث على أهم ما طرحه السيد كمال الحيدري بهذا الصدد، وذلك بهدف توضيح أطروحاته وتقديمها كما هي في حقيقتها، علماً بأني لا أهدف من خلال ذلك لتصويب الرؤية التي طرحها أو لتخطئتها، وإنما كل ما أهدف إليه هو طرحها في سياقها وبالكيفية التي أرادها، وذلك حتى يتمكن النقاد - إنْ أرادوا نقده - أنْ ينقدوه ضمن هذا الإطار، بدلاً من أنْ ينقدوه ضمن الأُطر التي تصوروها في أذهانهم.
دُورُ اللُّغَةِ فِي فَهْمِ النَّصِّ الدِّينِيِّ فِي فِكْرِ السَّيِّدِ كَمَالُ الحيدري
عندما نريد أنْ نتحدث عن دور اللغة في فهم النص الديني في فكر السيد كمال الحيدري، فلابد لنا من بيان مراده من اللغة أولاً، ومن النص الديني ثانياً، وذلك قبل أنْ نتعرف على الدور الذي يمكن أنْ تقوم به هذه اللغة في فهم النص الديني بحسب الرؤية التي يتبناها.
أولاً: المراد من اللغة عند السيد الحيدري
يقصد السيد الحيدري باللغة ”القواعد التي أسسها اللغويون والأدباء بشكل عام - في النحو، في الصرف، في البلاغة، في البديع... إلخ“. أي أنّه يقصد جميع العلوم المتعلقة باللغة، وهذه العلوم ليست فرعاً واحداً كما هو معروف، وإنما فروع متعددة[1] . والسؤال الذي على أساسه دخل السيد الحيدري في هذا البحث هو: هل القواعد التي أسس لها علماء اللغة لها حجية في فهم النص الديني أم لا؟ [2] .
ثانياً: المراد بالنص الديني عند السيد الحيدري
يعني السيد الحيدري بالنص الديني القرآن والحديث، وبالأخص القرآن الكريم، وذلك باعتبار أنّ نص القرآن ألفاظ وحيانية كما يعتقد - باستثناء مسألة تعدد القراءات - بخلاف الأمر فيما يتعلق بألفاظ الحديث، فإنّ ألفاظ الأحاديث في الأعم الأغلب هي من الراوي، وليست نصاً وارداً ممن أوتي جوامع الكلم[3] .
ثالثاً: علاقة اللغة بالنص الديني عند السيد الحيدري
يرى السيد الحيدري أنّ الكلام عن المنظومة اللغوية وقواعدها يدخل في صميم عملية فهم الدين[4] ، لأنّ الكثير من الأبحاث الأصولية هي أبحاث لغوية كالمسائل التي تتعلق بالظواهر، والأوامر، والنواهي، وما يتعلق بالصحيح والأعم... إلخ، فإنّ هذه الأبحاث محورها اللغة، وبالخصوص اللغة العربية، لأنّها هي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[5] ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[6] ، علماً بأنّ السيد الحيدري يُلفت النظر إلى تساؤل مهم، وهو: هل المراد بكون القرآن الكريم عربياً هو اتباعه القواعد ذاتها التي أسس لها علماء النحو أم لا؟! [7] .
يعتقد السيد الحيدري أنّ القول بأنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي لا يعني أنّه اتبع قواعد اللغة العربية التي أسس لها اللغويون بعد نزوله، نظراً لكون المدارس اللغوية متعددة ويوجد العديد من الاختلافات بين اللغويين أنفسهم[8] ، فحتى لو سلمنا بأنّ القرآن الكريم جرى وفقاً للغة العرب، فسيكون عربياً بمعنى أنّه استعمل المفردات العربية لا القواعد التي أسس لها النحاة بعد ذلك، لأنّ هذه القواعد لم تكن موجودة قبل نزول القرآن، وإنما أتى بها علماء اللغة بعد فترة من نزوله[9] .
أهمية ودور اللغة العربية
تكمن أهمية قواعد اللغة العربية بالمعنى العام «النحوية والصرفية والبلاغية وغيرها» في كونها تؤطر الذهن وتجعله في قوالب معينة، بحيث إنّه من خلالها يرى الأشياء، ومن خلالها يتم فهم النص الديني[10] .
ولهذا، فإن هذه اللغة - بحسب السيد الحيدري - إنْ لم تكن أخطر من قواعد الحديث، فإنّها ليست بأقل خطورة منها، لأنّنا عندما نريد أنْ نتحرك لفهم النص القرآني، فإنّنا سوف نتحرك وفق أصولها وقواعدها، فهي التي تشكل عقليتنا اللغوية، بحيث تجعل أذهاننا في قوالب معينة لا نستطيع أنْ نفهم النص الديني إلا من خلالها، ورغم أهمية هذه المسألة إلا أنّها لا يُلتفت إليها عادةً من قبل العلماء، وذلك لأنّهم يفترضونها مسلّمات مفروغ عنها[11] .
وبعبارة أخرى، فإنّ اللغة تابعة لثقافة الأمة «عقائدها، علاقاتها، سلوكها، أخلاقها،... إلخ» من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هذه القواعد التي نشأت من هذه الخلفيات الثقافية للأمة يصعب الخروج عليها من قبل المنتمين لثقافة الأمة نفسها، نظراً لكونها تم تأسيسها على يد القدماء، وهؤلاء عادةً يكتسبون قدسية خاصة، كما هو حال اللغة العربية مع سيبويه مثلاً[12] .
ومن هنا يُطالب السيد الحيدري بالنظر في قواعد اللغة العربية، لأنّها ليست إلا مجموعة اجتهادات لا أكثر، ولكنها صارت هي المرجعية الأولى في فهم النص الديني لدى علماء المسلمين[13] ، رغم أنّها ليست نصوصاً مقدسة، وينبغي أنْ يُتعامل معها بكونها مجرد وسيلة لا غاية، أي وسيلة للتعقل «لعلكم تعقلون»، فالتعقل هو الهدف، والوصول إلى التعقل يتم عبر وسيلة وهي اللغة[14] ، ولا إشكال في ضرورة مراجعة وتقويم هذه الوسيلة التي من خلالها يتم السعي لتحقيق هذا الهدف إذا تطلب الأمر.
خصائص اللغة العربية
أشار السيد الحيدري ضمن حديثه عن «فقه المرأة» لما أسماه بأهم المفاتيح أو القواعد التي نحتاجها للتحقيق في مباحث «فقه المرأة»، وما يهمنا هنا هو التركيز على الأمور التي ذكرها لبيان بعض الخصائص المهمة للغة العربية، علماً بأنّ بعض الخصائص التي ذكرها خاصة باللغة العربية، وبعضها الآخر عامة لكل لغات العالم، وسوف نستعرض هذه الخصائص فيما يلي[15] :
أولاً: أنّ اللغة العربية قائمة على «التذكير والتأنيث»
يتضح هذا الأمر على مستوى الضمائر «هم وهنّ، هو وهي، أنت وأنتِ»، وعلى مستوى الجمع «جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم».
وهذه المسألة - في تصور السيد الحيدري - هي واحدة من أهم مسائل تعقيدات اللغة العربية، التي يعرفها كل من درس فقه اللغة وفلسفة اللغة، لأنّ كثيراً من أصحاب اللغات في العالم لا يميزون في التعبير بين الذكر والأنثى، فهم في هذا الأمر كما هو الحال في اللغة العربية مع مسألة التثنية «أنتما»، إذ يمكن التعبير عنها للذكور والإناث على حد سواء، ولذا فإنّ هذه المسألة من جهة تُعد ثراءً وغناءً للغة، ومن جهة أخرى تشكل تعقيدات سنشير إليها فيما بعد [16] .
وهذا البحث يرى السيد الحيدري بأنّه مهم جداً، وله علاقة مباشرة بعملية الاستنباط، لأننا عندما نأتي للنص الديني ونلاحظ أنّه تم التعبير مثلاً بمفردة «الذين»، فهي تشير بحسب قواعد اللغة إلى الرجال، فيفهم أنّ المقصود بها هم الرجال دون غيرهم، وأما إذا جاء في النص الديني مفردة «اللواتي»، فيُفهم أنّ المقصود بها النساء، لذا فعندما يقول القرآن الكريم: «يا أيها الذين آمنوا»، فإنّ مقتضى الخطاب في الآية في الأصل يتكلم عن الرجال. نعم، قد يدل دليل آخر على عدم خصوصية الرجال، ولكن بمقتضى الأصل الأولي لقواعد اللغة العربية، فإنّ المقصود بهذا الخطاب في الأصل هم الرجال.
ومن هنا يُشير السيد الحيدري إلى أنّ القواعد الأخرى التي يتم استخدامها لجعل الخطاب في بعض النصوص الدينية لا يختص بالرجال وحدهم كالإجماع أو قاعدة الاشتراك أو التغليب أو... إلخ، ما هي في حقيقتها إلا توجيهات وتأويلات وتبريرات «تمت ما بعد الوقوع»، وذلك لأنّ مقتضى الأصل الأولي في اللغة كون المقصود بالخطاب هم الرجال[17] .
ثانياً: أنّ اللغة مرآة صافية ودقيقة لثقافة المجتمع
هذه قاعدة عامة في فقه اللغة، وليست مرتبطة بلغة العرب خاصة، وإنما بكل اللغات في العالم. ومن أهم المصادر التي تطرقت لهذا المجال كتاب «اللغة والمجتمع» [18] للدكتور علي عبد الواحد وافي، حيث يقول في مقدمة هذا الكتاب: ”تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها، وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية، ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وشئونها الاجتماعية العامة.. وما إلى ذلك“ [19] .
ويقول أيضاً: ”واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شؤونهم الاجتماعية العامة. فعقائد الأمة وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء والأخلاق والتربية وحياة الأسرة. وميلها إلى الحرب أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة وسائر أنواع الفنون الجميلة... كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها: في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب... وهلم جرا“ [20] .
لذلك؛ ينوه السيد الحيدري على الأمور التالية[21] :
§ أنّ الرجوع إلى قواميس اللغة لأمة من الأمم يفيد في التعرف على ثقافة هذه الأمة «عقائدها، أخلاقها، علاقاتها الاجتماعية وغيرها من الأمور المرتبطة بهذه المسائل».
§ يُلاحظ أنّ قواميس اللغة لهذه الأمة تكثر فيها المفردات التي تعكس الأمور المرتبطة بثقافتها، كما هو الحال في اللغة العربية التي تكثر فيها المفردات المتعلقة بالبعير «الإبل» [22] لما لها من ارتباط وثيق بحياة الإنسان العربي، وكذلك الأمر بالنسبة للمفردات المتعلقة بالحرب التي هي الأخرى لها تأثير كبير في حياته، ولهذا نراه يتفاخر بالحرب وليس بالسلم، ومن الطبيعي أنْ يكون لهذا الأمر انعكاساته الواضحة على ثقافته ولغته التي يتحدث بها. ومن هنا نفهم أيضاً أنّ مركزية الذكر في الثقافة العربية كان لها انعكاساتها أيضاً على قواعدها، ومن هنا نجد القول بأنّ أصل مفردات اللغة هي للمذكر، وأما المفردات الموضوعة للمؤنث فهي متفرعة عليها وليست أصلاً، وهذا مبني - بحسب السيد الحيدري - على أساس خلفيات ثقافية سابقة كان يعتقدها العربي وأثرت في جعله يضع قواعد لغوية متأثرة بها، ومن هذه الأمور هي اعتقاده بأنّ المرأة خلقت من ضلع الرجل، فهو الأصل وهي فرع متفرع منه، بل إنّ هذه الخلفية الثقافية ألقت بضلالها على تفسير بعض الآيات القرآنية أيضاً كقوله تعالى: «وخلق منها زوجها» كما لدى بعض المفسرين، حيث فسروها بما يتناسب مع هذه الثقافة، وهي أنّ حواء خلقت من ضلع آدم.
ثالثاً: أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية حية متغيرة
وهذه من أهم خصائص اللغات جميعاً، ومنها اللغة العربية، بل هذه واحدة من أهم أبحاث فقه اللغة، لأنّه إذا كانت اللغة ثابتة فيمكننا أنْ نعتمد في البحث عن المفردات على المعاجم اللغوية، وأما إذا قبلنا أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية لها حياة ولها ممات، أي تتغيّر وتتطور، فلا يمكن أنْ نفهمها على أساس المعجم اللغوي، حيث ستكون اللغة التي نتكلم عنها في زماننا المعاصر غير تلك اللغة التي كانت في أزمنة سابقة، وأنْ كانت من حيث الألفاظ والكلمات والحروف واحدة، ولكنها من حيث المفاهيم والمعاني متغيرة، فضلاً عن المصاديق التي هي متغيرة بطبيعة الحال[23] .
وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة - والكلام للسيد الحيدري - إلا أنّ علم الأصول عندنا وللأسف لم يلتفت إليها جيداً، ففي ثقافتنا الأصولية نجد الأصوليون يقولون: الأمر دال على الوجوب، والسؤال هنا: أي أمر هذا الدال على الوجوب؟!! هل الأمر الصادر في عصر النبي ﷺ دال على الوجوب بحسب الثقافة التي كانت قائمة آنذاك أم الأمر بحسب ما نفهمه في عصرنا الحاضر؟!!
وللإجابة عن هذا السؤال يُبين السيد الحيدري بأنّه لابد أنْ نعرف هل ما نفهمه الآن من النصوص هو نفسه ما كان في اللغة آنذاك ولم يتغير أم لا؟! لأنّه إذا ثبت لنا أنّ اللغة ثابتة ولم تتغير فالقضية منتهية إذا كنا نعتقد بأنّ الحجية لعصر الصدور، وأما إذا ثبت لدينا أنّها متغيرة وليست باقية على حالها فالأمر يختلف تماماً.
كما ينبغي البحث أيضاً عن جواب لهذا السؤال، وهو: هل يوجد فرق بين قواعد اللغة العربية والقرآن الكريم أم لا؟! فمثلاً لو وجدنا في قواعد اللغة بأنّ هناك تمييزاً بين المذكر والمؤنث من الناحية اللغوية في بعض الألفاظ، فلابد لنا أنْ نبحث هل أنّ القرآن الكريم قد استعمل هذا التمييز وفقاً لقواعد اللغة العربية التي نعرفها اليوم أم لا؟ وهل عندما قال القرآن الكريم: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً» قصد نفس القواعد التي وضعها سيبويه أم قصد قواعد أخرى تختلف ولها خصوصياتها؟! [24] .
إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة - والكلام للسيد الحيدري - مهمة للغاية، لأنّنا إذا قلنا بأنّ القرآن الكريم قصد نفس القواعد العربية المعروفة، فسنفسر القرآن الكريم وفقاً لهذه القواعد، وما يعنيه السيد الحيدري هنا هي القواعد الأساسية بمقتضى «الأصل الأولي» لا القواعد الأخرى التوجيهية «التأويلية» التي تم إيجادها بعد ذلك كما يؤكد.
ومن هنا يُبين السيد الحيدري بأنّ القرآن الكريم - وفقاً لما يراه - لا يعتني بالقواعد النحوية الأساسية بمقتضى «الأصل الأولي»، إذ يلحظ ذلك في العديد من آياته، ولهذا كثيراً ما يتم الاعتماد في ذلك على القواعد التوجيهية البديلة لتوجيه وتبرير وتأويل بعض الإشكالات الواردة على بعض الآيات، فنجد القول: «هذا ليس قياسي - هذا شاذ - هذا مؤنث مجازي - هذا من باب التغليب - هذا مشترك لفظي - هذا مجازي... إلخ»، وما يجعلنا نضطر للقيام بذلك، «أي اعتماد قواعد أخرى للتوجيه والتبرير والتأويل» هو أنّنا جعلنا الملاك الأساسي لهذه القواعد الأساسية، ومن ثم قمنا بتوجيه ما يخالفها بدلاً من القيام بمراجعة أصل هذه القواعد وتقويمها[25] .
المتخصصون ومسألة تغير اللغة
ينقل السيد الحيدري عن كتاب «اللغة والمجتمع» للدكتور علي عبد الواحد وافي النص التالي[26] :
”أن اللغات وما يتفرع عنها من اللهجات كانت ومازالت ولن تزال في تطور مستمر، وأنّ هذا التطور قانون ثابت يجري مجراه ويأخذ حكمه حتماً كلما توافرت دواعيه وعوامله، وأنّ هذه الدواعي حاصلة لا محالة وأنْ أبطأ ظهورها حيناً طويلاً أو قصيراً، وأنّ هذا القانون - الذي حصلت بيانكم إياه بالعبارة السابقة - هو قانون عام ما شذت ولا تشذ عنه أية لغة من لغات العالم قديمها وحديثها...“ [27] .
وهذه المسألة - بحسب السيد الحيدري - من أهم وأوضح خصائص اللغة، ولكن لعل الإنسان لا يلحظ هذا التطور، فيكون عنده تصور خادع وخاطئ، وهو أنّ اللغة ثابتة وغير متغيرة، لأنّه قد يعيش مثلاً جيلاً أو جيلين أو ثلاثة أو أكثر فلا يلحظ وقوع التغير، فيتوهم أنّ اللغة ثابتة، ولكن في واقع الأمر هذا مجانب للصواب، لأنّ عمر اللغة «عمر المفردات والتركيبات اللغوية» ليست كأعمارنا، وهي عادةً تحتاج لفترات طويلة لكي يتم رصد تغيرها، كما أنّ مقدار هذا التغير يعتمد على التطورات التي تحدث في ثقافة الأمة التي تتبع هذه اللغة.
وبعبارة أوضح وأدق وأعمق؛ لما قلنا أنّ اللغة تابعة لثقافة الأمة وأنّها عاكسة ومرآة لواقع هذه الأمة في فكرها، ثقافتها، حضارتها، علاقاتها، فإذا افترضنا أنّ هذه العلاقات والثقافة ثابتة ومستقرة، وأنّ الأمة مثلاً عاشت خمسة قرون في حالة من الثبات والاستقرار، فإنّ اللغة ستظل ثابتة لا تتغير، وأما إذا حصل فيها تطورات كما حصل في القرون الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة الأولى في صدر الإسلام، فإنّ هذا سيحدث تطوراً في اللغة أيضاً بحسب هذا التغير الحاصل، حيث سنجد أنّ اللغة ستتغير ولن تظل ثابتة، بل سنجدها ستتغير وستثرى وستتوسع مفرداتها[28] .
اللغة والفوارق الاجتماعية
ينقل السيد الحيدري أيضاً المثال الذي ذكره الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه «اللغة والمجتمع» الدال على «أثر الفوارق الاجتماعية على اللغة ومفرداتها»، والذي يقول فيه: ”فإن ما تسير عليه نظمها الاجتماعية بهذا الصدد يؤثر في مختلف نواحي لغتها حتى في ناحية القواعد. فمخاطبة المفرد بضمير الجمع تعظيما له: «أرجو أن تتفضلوا...»؛ وإجراء الخطاب في صيغة الإخبار عن الغائب: «يتفضل سيدي...»، كل ذلك وما إليه من أساليب التبجيل لا يبدو في اللغة إلا حيث ينحرف الناس عن مبادئ المساواة وتكثر الفوارق بين الطبقات. ولذلك يعد تطور هذه الضمائر في أمة ما أصدق سجل تطور اتجاهاتها في هذه الشؤون“ [29] .
رابعاً: أنّ اللغة تؤثر وتتأثر بالواقع الاجتماعي
تتأثر اللغة بالواقع وتؤثر فيه، ولهذا فهي وليدة لهذا الواقع الاجتماعي والثقافي والسلوكي والأخلاقي من جهة، ومن جهة أخرى هي مؤثرة فيه أيضاً، وذلك لكونها تفرض على ذهن الإنسان نمط تفكيره، أي بعد أنْ تكون اللغة معلولاً «متأثرة» تصبح علةً «مؤثرة»، لأنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يفكر بلا ألفاظ، وهذه الألفاظ بما تحمل من واقع سوف تضغط على الإنسان وتحدد مساره الفكري.
لذا، فإن هذه اللغة إذا كانت هي لغة البداوة لا لغة المدنية «بمعنى لغة الجهالة لا لغة الحضارة»، وأريد من خلالها أنْ يُفهم القرآن الكريم، فإنّه سوف يُفكر وفقاً لما شكلته له هذه اللغة البدوية «الجاهلة»، لأنّ هذه اللغة شكلت قيداً على الفكر وأصبحت تحدد الشكل الذي من خلاله يتم التفكير، فمثلاً قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾[30] سوف يتأثر بما يحمله الإنسان من فكر حول مفردة «الرجال» و«النساء» و«القوامة» [31] .
وهكذا أيضاً سنجد أنّ الآيات التي يُفهم منها أنّها تخاطب الرجال بحسب اللغة قد تفرض فهماً معيناً خاصاً بالرجال فقط، مما يثير عدة أسئلة عن سبب عدم شمولها للنساء أيضاً، فمثلاً قوله تعالى: ﴿أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾[32] من الطبيعي أنْ تؤثر في فهمنا لهذه الآية خلفياتنا اللغوية، فضمير «لامستم» مذكر وليس مؤنث، فيكون خطاب الآية - بحسب اللغة - ليس شاملاً للنساء كما يظهر. وكذلك الأمر في قوله تعالى: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾[33] ، وقوله تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾[34] ، حيث يُفهم من أمثال هذه الآيات بحسب قواعد اللغة العربية أنّ الخطاب فيها خاص للرجال، وهذا ما يُثير العديد من التساؤلات حول مصير النساء في الآخرة، فمثل هذه الآيات يُفهم منها أنّها تخاطب الرجال دون النساء بحسب منطق اللغة العربية في قواعدها الأساسية، وهذا ما يؤكد لنا بأنّ فهم القرآن الكريم يتأثر بهذه اللغة.
والخطورة في هذا الأمر هي أنْ يتم الاعتماد في النظر للقرآن الكريم وفهمه على نظارة لغة العرب وقواعدها، لأنّ هذه اللغة هي انعكاس لثقافة وعقيدة وأخلاق وسلوك وقيم العرب آنذاك، والقرآن الكريم يرفض هذه الثقافة ويُعبر عنها بالجاهلية الأولى.
ومن هنا دخل المستشرقون على الخط وقالوا: إنّ القرآن لا يصلح لكل زمان، لأنّه نزل بلغة عرب الجاهلية «ثقافتهم، عقيدتهم... إلخ»، وأما المجتمعات الآن فهي تختلف نظراً للتغيرات الحاصلة فيها، ولهذا فلقد انتهى دوره الآن، وهذه هي من أهم إشكالات المستشرقين والحداثيين التي جاءت في كلمات أحمد لطفي السيد، ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الكتاب والمفكرين، الذين يرون أنّ اللغة العربية هي لغة البداوة وليست لغة المدنية، بمعنى أنّها تحمل ثقافة أمة جاهلة وليست عالمة، حيث يرون أنّ القرآن الكريم نزل بمقتضى لغتهم، واللغة هي مرآة لمجتمعهم وثقافته كما بينا سابقاً، وهكذا دخلوا من باب علم الألسنيات لإقصاء القرآن وإنهاء دوره في حياة الناس في الواقع المعاصر[35] .
الأبحاث اللغوية وانعكاساتها على الأبحاث الأصولية[36]
نلاحظ أنّ لهذه المسألة أيضاً انعكاساتها التي ألقت بظلالها على علم الأصول، لأنّنا لو بنينا على أنّ اللغة ثابتة، فالأمر يختلف عما لو بنينا بأنها متغيرة، فعندما نريد أنْ نفهم المفردة أو التركيب أو الجملة أو الآية القرآنية أو النص الروائي الثابت عن النبي ﷺ، فنبغي لنا أنْ نحدد في البداية: هل نفهمه ضمن ما فهمه الصحابة وأصحاب الأئمة أو كما نفهمه نحن الآن؟ أي ظهور هو الحجة؟ هل الظهور في عصر الصدور أم الظهور في عصر الوصول؟ وهل أنّ الشارع كان يتحدث مع الناس وهو قاصد إفهام من كان في زمان النص أو كان يقصد إفهام الناس في جميع الأزمنة؟
يُشير السيد الحيدري إلى أنّ الأصل الأولي ثبوتاً - لا إثباتاً - في علم الأصول هو أنّ الحجية هي لظهور عصر الصدور لا لظهور عصر الوصول، ولذلك إذا تبادر في ذهننا من آية مباركة معنىً، فإنّ هذا التبادر ليس حجة علينا، إلا إذا استطعنا أنْ نثبت أنّ ما تبادر إلى ذهننا في عصر الوصول هو الذي كان في عصر الصدور. ومن هنا يرى السيد الحيدري أنّ قول كثير من الأعلام ”والعرف ببابك“ مبني على أساس خاطئ جداً، لأنّ هذا الظهور لا يعتني بعرف زماننا حتى يصح منهم هذا القول وفقاً لمبانيهم.
وهذه المسألة المهمة - بحسب السيد الحيدري - تُعد من أعقد مسائل علم الأصول، لأنّ كل أصولنا وفقهنا قائم عليها، وهذا ما صرّح به أعلامنا الأصوليين من القديم إلى يومنا هذا حتى المجددين[37] أو لنقل من كان أفقهم مفتوحاً كالسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وهو أنّ المدار عندهم هو على فهم من كانوا في زمان النص.
يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر كما في تقريرات السيد الهاشمي، بحوث في علم الأصول: "ثمّ انَّ هنا سؤالاً آخر وهو: انَّ الظهور الموضوعي الحجة هل هو المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمان وصوله إِلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين؟ كما في النصوص الشرعية بالنسبة إِلينا، فانَّ الأوضاع اللغوية بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغير وتتطوّر بمرور الزمان وإِنْ كان ذلك بطيئاً جدّاً لأنَّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية فتكون متأثرة بطرائق الحياة الاجتماعية المتغيّرة لا محالة.
والصحيح: انَّ الحجية موضوعها الظهور الموضوعي في زمن صدور الكلام والنصّ لا وصوله، والنكتة في ذلك وفقاً لمنهجنا العام في فهم هذه البحوث انَّ أصالة الظهور ليست تعبدية بل أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح انَّ ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمانه لا التي سوف تنشأ في المستقبل وعليه سوف يقع السؤال عن كيفية إمكان إحراز الظهور الموضوعي حال صدور النصّ مع انَّ غاية ما نستطيع إثباته فعلاً عن طريق الظهور والفهم الذاتي لنا تشخيص الظهور الموضوعي في أزمنتنا لا أكثر وليس موضوعاً للحجيّة. والمحقّقون قد عالجوا هذه النقطة بأصل عبّروا عنه بأصالة عدم النقل وقد يسمّونه بالاستصحاب القهقرائي لأنَّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً، إِلاّ أنّه من الواضح عدم إمكان استفادة حجيّته من دليل الاستصحاب وانَّما هو مفاد السيرة العقلائية وقد اصطلحنا عليه بأصالة الثبات في الظهورات لأنَّ هذا كما أشرنا لا يقتصر فيه على الأوضاع اللغوية بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعيّة أيضا"[38] .
ولهذا يصر السيد الشهيد الصدر - والكلام للسيد الحيدري - أنّ المدار هو أنْ نكتشف فهم السابقين واستنباطهم. والسؤال هنا: هل خطاب القرآن الكريم كان موجهاً إلينا أو لا؟ يعني عندما تقول الآية المباركة: «يا أيها الناس» أو «يا أيها الذين آمنوا»، فهل نحن مشمولون بها بالأصالة لا بالتبع أو لا؟ وهل القرآن الكريم للعالمين أو هو لمن جاء في وقت نزوله فقط؟ وهل هو معجزة لنا الآن أو لا؟! وغيرها من الأسئلة المهمة التي تُثار حول هذه المسألة، وتتطلب تحديد الموقف منها.
والعجيب - والكلام للسيد الحيدري - أنّ السيد الشهيد الصدر قدس الله نفسه في «الحلقة الثالثة» في بحث الظواهر[39] يقول: ”ويبقى علينا ان نثبت ان الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذى هو موضوع الحجية، وهذا ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه اصالة عدم النقل، وقد نسميه بأصالة الثبات في اللغة، وهذا الاصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيل لأبناء العرف نتيجة التجارب الشخصية من استقرار اللغة وثباتها[40] ، فان الثبات النسبي والتطور البطيء للغة، يوحي للافراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيرها وتطابق ظواهرها على مر الزمن، وهذا الايحاء وان كان خادعاً، ولكنه على أي حال ايحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على الغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائية نادرة تنفى بالأصل، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية اصالة عدم النقل، أو اصالة الثبات، ولا يعنى الامضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور، وانما يعنى من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجة ما لم يقم دليل على خلافه“ [41] .
ومعنى هذا الكلام - كما يؤكد السيد الحيدري - أنّنا إذا سمعنا شيئاً في عصرنا لابد أنْ نثبّت أنّ هذا هو الذي فهمه السلف الصالح لكي يكون حجة علينا، وهذا معناه أنّ فكرنا الشيعي سلفي في الفكر ولا فرق بينه وبين السلفية من هذه الجهة إلا في المصداق فقط، لأنّ السلفية السنية تقول لابد من فهم الصحابة، وأما نحن فنقول لابد من فهم أصحاب الأئمة[42] .
لذلك؛ يُبين السيد الحيدري أنّه لا يقبل بهذا الفهم، لأنّه يرى أنّ القرآن الكريم يخاطب المعاصرين أيضاً، والدليل على ذلك هو أنّ القرآن يخاطب النبي ﷺ بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[43] ، أي يخاطب الجميع، فعندما يقول: «يا أيها الناس» فإنّ المعاصرين مخاطبون أيضاً بهذه الآيات، ومن هنا يتبين أيضاً عدم قبول السيد الحيدري بالإجماع، وذلك لأنّه يعتقد أنّ الأساس المعرفي لفهم النص ليس مرتبطاً بزمن النص.
ولذا يرى أيضاً بأنّنا لسنا مجبرين على فهم الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾[44] كما فهمها السلف الصالح، بل يعتقد بأنّه لا يصح الاعتماد على إجماعهم وإعراضهم ومسلماتهم، لأنّ الحجة علينا هو فهمنا المعاصر الآن.
من هنا يرى السيد الحيدري ضرورة تحديد الموقف من هذه المسألة قبل البدء في البحث، وهي: أنّنا عندما نريد فهم النص الديني فبأي نظارة ندخل إليه؟ هل بنظّارة فهم الصحابة والأصحاب «أصحاب الأئمة» وعلماء اللغة في القرن الثاني والثالث والرابع أو بنظّارتنا الفعلية المعاصرة أي منهما؟! [45] .
تَأْثِيرُ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ عَلَى الاِسْتِنْبَاطِ الفقهِيِّ: «التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ نَمُوذَجًا»
استعرض السيد الحيدري بعض النصوص الفقهية لبعض الفقهاء، والتي يظهر منها تأثير مسألة التذكير والتأنيث في اللغة على عملية الاستنباط الفقهي، وسوف نورد ما ذكره من نصوص لبعض الفقهاء فيما يلي[46] :
المورد الأول: ابن إدريس الحلي في «السرائر»، حول قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[47] ، حيث يقول: ”... والذي يقتضيه أصول مذهبنا ان لا يقتلن الا بدليل قاطع، فأما تمسكه «يقصد الشيخ الطوسي» بالآية فضعيف، لأنّها خطاب للذكران دون الإناث، ومن قال تدخل النساء في خطاب الرجال على طريق التبع، فذلك مجاز، والكلام في الحقائق، والمواضع التي دخلن في خطاب الرّجال فبالإجماع دون غيره، فليلحظ ذلك“ [48] .
يُبين السيد الحيدري هنا أنّ ابن إدريس يرى أنّ ظاهر الخطاب في الآية خاص بالرجال دون النساء، لأنّ الآية احتوت في خطابها على جمع مذكر سالم «يحاربون» وليس مؤنث، حيث أنّه أعتمد على هذا الأمر للقول بعدم شمولها لغير الرجال، وإنْ كان قد التزم بشمولها للنساء بعد ذلك من جهة الإجماع، وليس من جهة دلالتها اللغوية[49] .
المورد الثاني: المقدس الأردبيلي في كتابه «مجمع الفائدة والبرهان في إرشاد الأذهان» «في الأذان والإقامة»، يقول: ”واما استحبابهما للنساء: فيفهم من عموم بعض الاخبار، وأخذ حكمهن عن حكم الرجل“ [50] .
يُبين السيد الحيدري أنّ مورد الشاهد هو قوله: ”وأخذ حكمهن عن حكم الرجل“، إذ أنّ هذا يشير بأنّ الحكم أولاً وبالذات جاء للرجل، وإنْ جُعل بعدها شاملاً للمرأة أيضاً.
المورد الثالث: السيد العاملي في كتابه «مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام» حول وقوع النجاسة في البئر، فلابد أنْ ينزح بمقدار معين حتى يطهر، والسؤال: هل يجزئ أن تقوم بذلك المرأة؟ صاحب مدارك الأحكام يقول: ”المشهور أنّه لا يجزئ في النزح غير الرجال، من النساء والصبيان والخناثى، لاختصاص القوم بالرجال، واجتزأ بهم بعض الأصحاب، وهو حسن مع عدم قصور نزحهم عن نزح الرجال“ [51] .
لاحظوا هنا تأثير الخلفيات اللغوية، حيث يفهم السيد العاملي أنّ ظاهر الخطاب في النص الديني هو للرجال، وإنْ كان يشمل النساء بعدها بعناوين أخرى.
المورد الرابع: الشيخ البحراني في كتابه «الحدائق الناضرة»، حول «المطهرات - الشمس» يقول: ”ثم لا يخفى ايضا ان جل الأحكام من عبادات ومعاملات ونحو ذلك انما خرجت في الرجال والسؤالات إنما وقعت في الرجال مع أنّه لا خلاف في دخول النساء ما لم تعلم الخصوصية للرجال في ذلك الحكم، ونحو ذلك مما لا يخفى على المتدبر في الأخبار الواردة في جميع الأحكام...“ [52] .
المورد الخامس: أيضاً في الحدائق الناظرة يقول: ”وهذه الروايات ونحوها وان اختصت بالصبيان إلا ان الأصحاب «رضوان الله عليهم» لم يفرقوا في هذه الأحكام بين الصبي والصبية. وهو جيد، فإن أكثر الأحكام في جميع أبواب الفقه إنما خرجت في الرجال مع أنّه لا خلاف في إجرائها في النساء ولا اشكال“ [53] .
يُشير السيد الحيدري أن صاحب الحدائق يرى أنّ الأحكام متعلقة بالرجال في حكمها الأولي الأساسي، ولابد من عمل بحث مستقل بعد ذلك لتحديد هل أنّ المرأة مشمولة به أو لا؟ وكل هذا بسبب تأثير الخلفيات اللغوية كما هو واضح.
القُرْآنُ الكَرِيمُ وَالقَوَاعِدُ النَّحْوِيَّةُ
يطرح السيد الحيدري هذا السؤال: هل سار القرآن الكريم على القواعد النحوية التي اعتمد عليها هؤلاء الفقهاء أم لا؟ ويجيب عليه بالقول: أنّ القرآن الكريم لا يعتني بهذه المسألة، فالعديد من الآيات القرآنية لا تعتني بالمذكر والمؤنث من الأصل، ولذلك يرى ضرورة مراجعة فهمنا لها وللقواعد اللغوية، لأنّ هذا سيثير العديد من الأسئلة والإشكالات حول بعض الآيات القرآنية التي يُفهم منها أنّها تخاطب الرجال فقط كما ألمحنا لذلك سابقاً[54] .
وقبل أنّ نستعرض بعض الآيات القرآنية التي أوردها السيد الحيدري للتدليل على عدم عناية القرآن الكريم بالقواعد النحوية كمسألة التذكير والتأنيث والجمع من الأصل؛ من المهم - لكي يُحرر مورد النزاع جيداً - التأكيد مرة أخرى على التالي[55] :
أولاً: القواعد الأساسية والقواعد التوجيهية
يُميز السيد الحيدري بين القواعد الأولية أو ما يسميه القواعد الأساسية للغة، وبين القواعد التوجيهية والتأويلية «الثانوية»، والتي تم ايجادها بعد الاصطدام ببعض الإشكاليات، فحديثه ينصب على القواعد الأساسية «الأولية»، لأنّه يعتقد أنّه لم يتم إيجاد القواعد التوجيهية أو التأويلية أو «أدلة ما بعد الوقوع» كما يُعبر أحياناً إلا بعد ملاحظة بعض الإشكاليات حول عدم الالتزام بالقواعد الأساسية في بعض الأحيان.
ومن هنا يجد السيد الحيدري مثلاً أن الآيات القرآنية التي يظهر منها بحسب قواعد النحو الأساسية بأنّها خاصة بالرجال لاستعمالها مفردات وضمائر دالة على هذا الأمر، تم إيجاد قواعد أخرى لتوجيهها وتأويلها لجعلها شاملة لغير الرجال أيضاً كقاعدة الاشتراك أو التغليب أو... إلخ أو من خلال القول بأنّ هذا مقدر، هذا غير قياسي، هذا شاذ، هذا مؤنث مجازي... إلخ، أو من خلال القول بأنّ هناك إجماعاً على شمولها لغيرهم، وهكذا.
وهذه القواعد التوجيهية البديلة جاءت - بحسب السيد الحيدري - في مرحلة لاحقة بهدف التوجيه والتبرير والتأويل، والذي جعل العلماء يضطرون لإيجادها هو أنّهم جعلوا الملاك الأصلي لتلك القواعد اللغوية المعروفة، وعندما واجهوا بعض الإشكالات عليها، فإنّهم اضطروا لإيجاد قواعد أخرى لتوجيه وتأويل وتبرير سبب الخروج عليها في بعض الحالات[56] .
ولذا من الأفضل - بحسب السيد الحيدري - أنّ تؤسس قواعد لغوية تعتمد كلياً على النص القرآني، بدلاً من اللجوء إلى القواعد التوجيهية والتأويلية البديلة، لأنّه يرى أنّ النص القرآني لا يعتني ببعض القواعد اللغوية من الأصل.
ثانياً: اللغة القرآنية ولغة أهل الجاهلية
يُميز السيد الحيدري بين اللغة العربية عند عرب الجاهلية، وبين اللغة العربية كما أتى بها القرآن الكريم، ويرى بأنّه لا يكفي أنْ نثبت بأنّ هذه القواعد اللغوية التي أسس لها النحاة موافقة للغة أهل الجاهلية، لأنّنا بهذا سوف ننظر للقرآن الكريم ونفهمه من خلال هذه النظارة، أي نظارة لغة العرب في زمن الجاهلية، وهذه اللغة - كما مر بنا - هي انعكاس للخلفيات الثقافية للمجتمع العربي آنذاك، وهذا لا يتناسب مع النص القرآني لوجود بعض الخصوصيات التي يختلف فيها مع لغة أهل الجاهلية وثقافتهم.
ومن هنا أيضاً يُطالب السيد الحيدري بتأسيس قواعد لغوية وفقاً للغة العربية التي أتى بها القرآن الكريم، وليس وفقاً للغة العرب في جاهليتهم، وهذا لا يعني أنّه يرى عدم الاستفادة من هذه اللغة، ولكن ينبغي أنْ يكون الأساس هو النص القرآني لكونه هو الأول والأصل.
ومن هنا نفهم الخيارين الذين وضعهما السيد الحيدري لحل بعض الإشكاليات المطروحة على بعض النصوص وهما[57] :
§ الأول: أنْ نجعل القواعد النحوية الأساسية هي الأصل، ونقوم بإيجاد بعض القواعد التوجيهية والتبريرية الأخرى لحل أي إشكال يرد على هذه القواعد الأساسية، وهذا هو الأمر الذي قام به كل اللغويين والمفسرين.
§ الثاني: تأسيس قواعد لغوية أخرى على أساس من النص القرآني، بلا حاجة للاعتماد على قواعد توجيهية وتأويلية أخرى.
وبالتأكيد فإنّ ما يدعو له السيد الحيدري هو الخيار الثاني، فهو لا يرى صحة الالتزام بالخيار الأول، لأنّه يعتقد بأنّنا لسنا بحاجة لذلك، وإنما ينبغي أنْ نقوم بتأسيس قواعد لغوية على أساس من النص القرآني، لأنّه سابق لتلك القواعد التي أسسها النحويون.
مُسَالَةٌ «التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ» بَيْنَ اللُّغَوِيِّينَ وَالقُرْآنِ الكَرِيمِ
ينطلق السيد الحيدري من أصل مفاده أنّ الآيات القرآنية لا تعتني في خطاباتها بالتذكير والتأنيث كما هو الحال في القواعد النحوية الأساسية، وهذا لا يعني أنّ النحويين قد وقفوا مكتوفي الأيدي أمام بعض النصوص التي يظهر منها ذلك، وإنما أوجدوا قواعد توجيهية أخرى لتوجيه وتأويل وتبرير عدم التزامها بهذه القواعد كما ذكرنا ذلك سابقاً، وهذا من قبيل «نحت الأدلة بعد الوقوع» كما يُعبر السيد الحيدري أحياناً.
هذا ولقد بنى اللغويون على أنّ الأصل هو للتذكير وأنّ التأنيث متفرع منه، حيث تجد ذلك عند جملة من اللغويين منهم قول أبي علي الفارسي كما نقل في المخصص: ”قَالَ الْفَارِسِي: أصلُ الأسماءُ التذكيرُ والتأنيثُ ثانٍ لَهُ...“ [58] . وكذلك الأنباري في البلغة: ”أعلم أَنّ الْمُذكر أصل للمؤنث...“ [59] . والتأسيس الأول لهذه المقولة جاء عند سيبويه[60] ، حيث ينقل عنه قوله: ”واعلم أنّ المذكر أخف عليهم من المؤنث لأنّ المذكر أول، وهو أشد تمكنا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أنّ“ الشيء ”يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أنْ يعلم أذكر هو أو أنثى...“ [61] .
ويعلق السيد الحيدري على هذا الكلام بالأمور التالية[62] :
1 - أنّ سيبويه في قوله «أنّ التأنيث يخرج من التذكير» وأنّ «المذكر أول»، أي أصل، قد يستدل على هذا القول بمجموعة من الشواهد، ولكن مع ذلك فإنّ من حق العلماء أنْ يخالفوه وأنْ يردوا كلامه بالقول بأنّه باطل.
2 - يعتقد السيد الحيدري بأنّ هذا الكلام عمقه كلامي فلسفي، وهذا ليس غريباً على عقلية سيبويه، لأنّه جعل النحو فلسفة، فحاله كحال المحقق الأصفهاني الكمباني حيث فلسف الفقه والأصول، بحيث أنّه عندما نقرأ أصوله وحواشيه على الكفاية أو المكاسب نلحظ أنّنا نقرأ مواد فقه وأصول، ولكن القواعد هي قواعد فلسفية.
3 - يتساءل الحيدري: ”من قال أنّ المذكر أول؟؟“، وأنّه ”يخرج التأنيث من التذكير“ كما يقول سيبويه، ويعود للتأكيد مرة أخرى بأنّ هذه المسألة في اعتقاده هي مسألة كلامية وفلسفية «وجودية»، وهي تعود للقول بأنّ الله خلق آدم وخلق حواء من ضلعه، فحصل انعكاس لهذه الثقافة في ثقافة العرب، ومنه انتقلت إلى اللغة العربية أثناء تأسيس قواعدها، حيث يرى أنّ لهذا الكلام خلفيات سابقة أثرت فيه.
4 - إنّ المشكلة الأصلية في هذه المسألة هي أنّ أصحاب اللغة عندما يرون مثلاً ضميراً يدل على التذكير «في الآيات القرآنية مثلاً»، فإنّهم يحددون من خلال ذلك من البداية أنّه للمذكر، وإذا وجدوا أنّه تم استعماله مع مفردات مؤنثة يبدؤون في توجيه ذلك بالقول مثلاً بأنّ هذا مشترك للتذكير والتأنيث، وأما السيد الحيدري فيرى أنّ القرآن الكريم من حيث الأصل لا يلتفت لهذه المسألة، لأنّه لا يعتني بالتذكير والتأنيث من الأساس، وهذا ما يُلاحظه من خلال العديد من الآيات المباركة التي سوف نستعرضها لاحقاً.
5 - لا نلحظ في القرآن الكريم - بحسب السيد الحيدري - كون مسألة التذكير هي الأصل وأنّ التأنيث هو فرع متفرع منه كما يقول سيبويه، بل يمكن أنْ نجد عكس ذلك، فهناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أنّ «التأنيث» في عرض «التذكير» لا فرعاً له، فالقرآن الكريم مثلاً يستعمل مفردة «زوج» للذكر والأنثى على حد سواء، والأعلام يقولون بأنّ «زوجة» لغة رديئة، رغم أنّها جاءت ضمن القاعدة الأساسية للتأنيث، فمن علامات المؤنث اللفظي في اللغة التاء المدورة في آخره.
6 - حاول سيبويه أنْ يمثل بمثال ليُعلل ويُدلل لقوله: أنّ المذكر هو الأول «الأصل» ويخرج منه المؤنث «يتفرع منه»، ولكن هذا المثال لا يثبت مثل هذه الدعوى ولا يضع تعليلاً سليماً لها بحسب السيد الحيدري، ولذلك عبر عنه بالقول «بئس ما مثل»، وذلك في قوله: ”التفت للمثال الذي أنا أعبر عنه بئس ما مثل“، والمثال الذي ذكره سيبويه لإثبات ذلك هو قوله: ”ألا ترى أنّ“ الشيء ”يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى“، حيث أنّه لا علاقة لهذا المثال بمسألة كون التذكير هو الأول أو الأصل وأنّ التأنيث متفرع عليه، علماً بأنّ استعمال «شيء» في القرآن الكريم مذكراً جاء مع عبارات مؤنثة بحسب اللغة مع العلم بذلك، وهذا يدل بحسب السيد الحيدري على أنّ القرآن الكريم لا يلتفت ولا يعتني في خطابه بالتذكير والتأنيث كما في القواعد النحوية الأساسية، ولا يدل على كون التذكير هو الأول أو الأصل كما عبر سيبويه.
7 - يُبين السيد الحيدري بأنّ سيبويه بهذا الكلام يريد أنْ يؤسس لقواعد، ولكنه عندما يأتي إلى الآيات القرآنية كآية سورة الحج ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ ويرى أنّها لا تتناسب مع تأسيسه، فإنّه سيجد لها مئة مخرج وتأويل على حد تعبيره، لأنّه سيلاحظ أنّ القرآن لم يراعِ ما أسس له.
8 - يُبين السيد الحيدري بأنّه لا يوجد لديه موقف شخصي من سيبويه، ولكن من حق العلماء من أمثاله أنْ يجتهدوا وأنْ يُشككوا في القواعد التي أسس لها، وهذا لا يعني أنّه يتنكر لجهوده العلمية[63] .
الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ وَمُسَالَةُ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ
بعد بيان رأي السيد الحيدري في كون القرآن الكريم لا يعتني من الأصل ببعض المسائل النحوية كمسألة التذكير والتأنيث، ومطالبته بتأسيس قواعد لغوية على أساس من النص القرآني كما بينا سابقاً، فإنّنا سنقوم الآن بإيراد بعض الآيات القرآنية التي حاول السيد الحيدري من خلالها التدليل على كلامه هذا، وذلك في التالي:
أولاً: زلزلة - شيء
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾[64] .
استعملت هذه الآية مفردة «شيء» وليس «شيئة» لوصف مفردة الزلزلة المؤنثة بحسب قواعد اللغة الأساسية، وهذا لا يعني أنّ التذكير أول كما يقول سيبويه، وإنما يعني عدم اعتناء القرآن الكريم بهذه المسألة «التذكير والتأنيث» وعدم مراعاته لها من الأصل كما ذكرنا سابقاً، لأنّ القرآن الكريم - بحسب السيد الحيدري - يرى أنّ مفردة «شيء» من حيث الأصل مشتركة ويصح استعمالها للفئتين، وليس لأنّها للتذكير في الأصل، ولكن يصح استعمالها للتأنيث لكونها مشتركة في الاستعمال، وليس لأنّه يتفرع منه التأنيث كما يقول سيبويه.
وبعبارة أخرى؛ فإن اللغويين ينظرون أولاً إنْ كان اللفظ كمفردة «شيء» للمذكر أو لا، وإذا وجدوا بأنّه للمذكر واستعمل للمؤنث يقولون بأنّ هذا مذكر، ولكنه مشترك يصح استعماله للمؤنث أيضاً، وأما السيد الحيدري فيرى أنّ اللفظ هو من الأصل ومن البداية مشترك للمذكر والمؤنث، لأنّ القرآن الكريم لا يعتني بهذه المسألة التي أسس لها النحويون.
وقفة مع أحد النقاد
من المناسب هنا أنْ نقف مع ما أشكل به بعض النقاد حول كلام السيد الحيدري عن سيبويه وعن هذه الآية المباركة، حيث قال: "... فالسيد - حفظه الله - لم يفهم مراد سيبويه، ولعله لم يفهم الآية أيضا، فسيبويه يقول ما حاصل: «لفظ «شيء» يصلح للمذكر والمؤنث، ولكنه من حيث اللفظ مذكر» بمعنى آخر: «فالشيء - كما يقصد سيبويه - لفظ مشترك للمؤنث والمذكر وهو من حيث اللفظ مذكر»، ولأنّ السيد كمال لم يفهم كلام سيبويه قال: «يحق لك أنْ تقول بأنّ «شيء» مشترك للمذكر والمؤنث خلافاً لسيبويه» مع أنّ هذا القول هو قول سيبويه، فكيف يقول السيد: «خلافا لسيبويه؟؟»، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فالسيد استشهد بآية لينقض كلام سيبويه وهو لا يعلم أنّ الآية حجة لسيبويه لا له، فالآية تقول: «إن زلزلة الساعة شيء عظيم» فوقع ال «شيء» المذكر خبراً للزلزلة المؤنث، وهذا يؤيد قول سيبويه: «ألا ترى أنّ الشيء يقع على كل ما أُخبر عنه من قبل أنْ يُعلم أذكر هو أو أُنثى»، ثم قالت الآية: «شيء عظيم»، فجاءت الصفة مذكرة لأنّ الصفة توافق الموصوف نوعاً وكماً وإعرابا، ولأنّ الشيء مذكر فجاء وصفه مذكراً أيضا، أليس من الطريف أنْ يقول السيد على مثال سيبويه «بئس ما مثل» ثم يستدل بآية هي في الحقيقة حجة لسيبويه؟؟؟ فالسيد يقول «من قال الشيء مذكر» ثم يستدل بآية جاء فيها لفظ الشيء موصوفاً بصفة مذكرة!! كم هذا طريف وظريف!! ".
المناقشة
والحقيقة أنّ هذا الناقد فهم المسألة بشكل معكوس، وبيان ذلك في الآتي:
§ أولاً: صور الناقد أنّ اعتراض السيد الحيدري على سيبويه هو في كونه يرى بأنّ لفظ «شيء» يصلح للمذكر والمؤنث، ولكنه من حيث اللفظ مذكر، وهذا مجانب للصواب، لأنّ اعتراض السيد الحيدري كان حول قول سيبويه «أنّ المذكر أول «أصل» وإنما يخرج منه التأنيث»، وليس في كون المذكر ربما يكون مشتركاً لفظياً للمذكر والمؤنث.
§ ثانياً: صور الناقد أنّ السيد الحيدري لم يفهم كلام سيبويه، وذلك لأنّه قال كما نقل عنه: ”يحق لك أنْ تقول بأنّ «شيء» مشترك للمؤنث والمذكر خلافاً لقول سيبويه“، وذلك لأنّ سيبويه في حقيقة الأمر يرى ذلك، والحق أنّ السيد الحيدري قصد بهذا الكلام أنّ هذه المسألة من أساسها هي مشتركة تستخدم للتذكير والتأنيث بلا حاجة لبيان كونها مذكراً في الأصل، لأنّه يرى أنّ القرآن الكريم لا يعتني بهذه المسألة «التذكير والتأنيث» من الأساس، وليس لأنّها في الأصل مذكر، ولكنها تستعمل مشتركة للمذكر والمؤنث، ومما يُدلل على ذلك هو قوله: ”من قال أن المذكر أول؟؟“، ولكن الناقد غفل عن هذا الكلام في هذا المورد.
§ ثالثاً: رغم أنّ الناقد صور أنّ السيد الحيدري لم يفهم كلام سيبويه إلا أنّ ما ذكره الحيدري ”من أنّ سيبويه يرى أنّ المذكر أصل وأنّ المؤنث متفرع منه“ هو ذاته ما فهمه العديد من اللغويين ومنهم التاليين:
o السيرافي في شرح كتاب سيبويه، إذ يقول: ”ثم قال: «أي سيبويه»“ وإنما يخرج التأنيث من التذكير ”... وقوله:“ يخرج من التذكير ”كقولك: يتفرّع من التذكير، ومثله في الكلام كثير، كقولك: الإنسان يخرج من النّطفة، والكبير يخرج من الصغير، وقد خرج من زيد شجاع، أي تفرّع ونشأ“ [65] .
o صاحب كتاب الممنوع من الصرف في اللغة العربيّة، حيث يقول: ”يقول النحاة... وبيّن «يقصد سيبويه» كذلك أنّ التذكير هو الأساسي ثم يدخل عليه ما يجعله مؤنثا ليعطيه حكما مختلفا «واعلم أنّ المذكر أخف عليهم من المؤنث لأنّ المذكر هو أشد تمكنا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير» ويتابع كلامه «أي سيبويه» معللاً «ألا ترى الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى...»“ [66] .
§ رابعاً: صور الناقد أنّ استشهاد السيد الحيدري بالآية «إن زلزلة الساعة شيء عظيم» تفيد عكس ما أراده، وهذا مجانب للصواب، لأنّ السيد الحيدري أراد بالاستشهاد بهذه الآية - وغيرها من الآيات الأخرى التي سوف نوردها فيما بعد - لفت الانتباه إلى أنّ القرآن الكريم لا يعتني من الأساس بمسألة التذكير والتأنيث، وليس لأنّ القرآن الكريم يرى أنّ الأصل هو للتذكير وأنّ المؤنث يتفرع منه، أو أنّه يرى الأصل هو التذكير ولكن في حالات معينة يكون اللفظ مذكراً ويصح استعماله في المؤنث، فهو أراد الاستشهاد بهذه الآية وغيرها لمناقشة الأمر الأول «أي بيان أنّ القرآن لا يعتني بالتذكير والتأنيث من الأساس»، وليس لمناقشة الأمر الثاني «أي أنّه يصح استعمال اللفظ المذكر في المؤنث في بعض الحالات»، فتأملوا!
§ خامساً: صور الناقد أنّ السيد الحيدري عندما قال: ”بئس ما مثل“ كان يعني بهذه العبارة قول سيبويه في كون «الشيء» مشتركاً لفظياً، وهذا مجانب للصواب أيضاً، فالسيد الحيدري ذكر هذه العبارة، لأنّ سيبويه علل أنّ المذكر هو أصل المؤنث من خلال هذا التمثيل، حيث أنّه قال أولاً: ”... لأنّ المذكر أول، وهو أشد تمكنا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير“. ولتعليل كلامه هذا قال بعدها: ”ألا ترى أنّ“ الشيء ”يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أنْ يعلم أذكر هو أو أنثى“، ولأنّ السيد الحيدري يرى أنّه لا علاقة بهذا التعليل بمسألة أنّ «المذكر أول والمؤنث متفرع منه»، فإنّه عبر عنه بقوله: ”بئس ما مثل“، فهذه هي حقيقة الأمر، وليس كما صور الناقد من أنّه قال هذا فقط لأنّ سيبويه يعتقد أنّ لفظ «الشيء» مشتركاً لفظياً، فتأملوا!!.
ثانياً: الأنعام بطونها أو بطونه
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾[67] . لاحظوا أنّ هذه الآية عبرت عن الأنعام ب «بطونها»، ولكن في آية أخرى تم التعبير عن الأنعام ب «بطونه»، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾[68] .
ثالثاً: الطاغوت يعبدوها - يكفروا به
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾[69] . لاحظوا أنّ هذه الآية عبرت عن الأنعام ب «بطونها»، ولكن في آية أخرى تم التعبير عن الأنعام ب «بطونه»، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾[70] .
رابعاً: السماء منفطر - السماء انشقت
قال تعالى: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾[71] . حيث تم التعبير عن السماء ب «منفطر» ولم تقل الآية «منفطرة» بصيغة المؤنث، ولكن في آية أخرى تم التعبير عن السماء بصيغة المؤنث «انشقت» كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾[72] .
خامساً: ريح طيبة - ريح عقيم
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا﴾[73] . لاحظوا هنا أن الآية عبرت عن الريح ب «الطيبة»، ولكن في آية أخرى تم التعبير عن الريح ب «العقيم» وليس ب «العقيمة» كما في قوله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾[74] .
سادساً: بلدة طيبة - بلدة ميتاً [75]
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[76] . نلاحظ هنا أنّ «بلدة» مؤنثة، ولذا جاء التعبير عنها في الآية بأنّها «بلدة طيبةٌ»، وهذا وفقاً للقاعدة الأساسية التي أسس لها النحاة، ولكن هناك آية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًاۚ كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ﴾[77] تم التعبير عن بلدة بصيغة المذكر «بلدةً ميتاً» [78] .
سابعاً: رسل «جاءت - جاءكم»
قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾[79] . لاحظ هنا تم التعبير عن الرسل ب ”جاءت“، وفي آية أخرى كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾[80] تم التعبير عن الرسل ب «جاءتهم»، ولكن في آية أخرى كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾[81] تم التعبير عن الرسل ب «جاءكم». لاحظوا هنا أنّ الرسل تارة يعبر عنهم بالمؤنث، وتارة يعبر عنهم بالمذكر بحسب قواعد اللغة الأساسية، مما يدل على عدم اعتناء القرآن بهذه المسألة من الأصل.
ثامناً: قال نسوة أم قالت
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[82] . لاحظوا أنّ الآية لم تقل: قالت نسوة وإنما قال نسوة[83] .
العطف في القرآن الكريم
بعد أنْ بين السيد الحيدري كون القرآن الكريم لا يعتني في الكثير من آياته من الأصل ببعض المسائل النحوية كمسألة التذكير والتأنيث، ذكر السيد الحيدري أيضاً مثالين يُبين من خلالهما عدم اعتناء القرآن الكريم بمسألة العطف ولوازمها كما تفيد قواعد اللغة الأساسية، وهذين المثالين هما في التالي[84] :
1» «والصابئين - والصابئون»
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾[85] . لاحظوا هنا أنّ الصابئين منصوبة باعتبار أنّها معطوفة على اسم إن، واسم إن منصوبة فصارت «الصابئين»، ولكن في آية أخرى جاءت «والصابئون»، وهي في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾[86] . لاحظوا أنّها جاءت في الآية الأولى «والصابئين»، وجاءت في الآية الثانية «والصابئون» رغم أنّ كلاهما جاء معطوفاً.
2» «مقيمين أو مقيمون»
قال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾[87] . لاحظوا أنّ الراسخون مرفوعة، والمؤمنون معطوفة على الراسخون فأخذت حكمها، ولكن ما جاء بعدها معطوف على الراسخون والمؤمنون، ومع ذلك لم تكتب «والمقيمون» وإنما كتبت «والمقيمين»، ثم عاد العطف على «والمؤتون الزكاة» و«المؤمنون بالله».
القرآن الكريم والحركات الإعرابية
كما أشار السيد الحيدري أيضاً إلى مثال حول عدم عناية القرآن الكريم بالحركات الإعرابية، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[88] .
لاحظوا أنّ الآية قالت: «عَلَيْهُ» بالضمة، وليس «عليهِ» بالكسرة[89] .
المحصلة النهائية
والمحصل من كل ما سبق؛ أنّ السيد كمال الحيدري يذهب لضرورة تأسيس قواعد لغوية على أساس من النص القرآني، نظراً لاعتقاده أنّ القرآن الكريم لا يعتني بالقواعد اللغوية التي أسس لها النحاة في العديد من آياته، وإذا تم ذلك فإنّه سوف يحقق لنا أمرين مهمين:
§ أولاً: أنّه سوف يعفينا من الاعتماد على القواعد التوجيهية والتأويلية البديلة «الثانوية» التي تم إيجادها لتبرير وتأويل بعض الإشكاليات المطروحة كما يعتقد.
§ ثانياً: أنّه سوف يسد الباب أمام الذين يستغلون مثل هذه الأمور للقول بوجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم. علماً أنّه حتى لو خالف النص القرآني هذه القواعد اللغوية، فلا يمكن الحديث عن وجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم، لأنّه أسبق زمناً من القواعد اللغوية، فلا يصح أمام ذلك أنْ يحكم عليه بقواعد تم تأسيسها بعده.
والغريب في هذه المسألة أيضاً هو أنّ بعض النحاة نسبوا أخطاءً لغوية لبعض شعراء الجاهلية؛ رغم أنّ الشعر الجاهلي أسبق زمناً من قواعد النحو أيضاً، إذ ينقل الدكتور إبراهيم أنيس هذا الأمر في كتابه «من أسرار اللغة»، مستنكراً بقوله: "وكيف أمكن أن ينسبوا الخطأ لبعض الفحول من شعراء الجاهلية كالنابغة في قوله:
وبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أبيابها السم ناقعُ
فقالوا كان ينبغي أن يقول: ”السم ناقعاً“ أو السم الناقع!! "[90] .
إلى أنْ يقول: "وهكذا نراهم «أي النحاة» لم يتورعوا عن نسبة الخطأ الإعرابي لفحول الشعراء الجاهليين، ثم دان لهم الكتاب والشعراء في العصور الإسلامية وراعوا في إنتاجهم أصول النحاة، يلتزمونها ولا يحيدون عنها، حذر نقدهم وتشنيعهم لأنّهم كانوا نقاد تلك العصور، والساهرين على ما أسسوا من نظام إعرابي استمسك به الناس وعدوه الفصاحة كل الفصاحة. وقد أثار عليهم من الشعراء الفرزدق حين قال قصيدته التي مطلعها:
عرفت بأعشاش وما كدت تعزفُ وأنكرت من حدراء ما كنت تعرفُ
إلى أنْ قال:
وعض زمان يا بن مروان لم يدع من الناس إلا مسحتا أو مجلفُ
فجاءه أحد النحاة المتزمتين يسائله: علام رفعت مجلف؟ فأجابه الفرزدق في سخرية واعتزاز بالنفس: على ما يسوءك وينوءك، علينا أنْ نقول وعليكم أنْ تتأولوا"[91] .
وحول هذا الأمر، وتحت عنوان «النحو والشعر الجاهلي» يقول الدكتور علي الوردي في كتابه «أسطورة الأدب الرفيع»: ”وقد حدثنا الرواة عن ورود أخطاء نحوية كثيرة في الشعر الجاهلي. وليس من النادر أنْ نجد في الشعر الجاهلي فاعلاً منصوباً أو مفعولاً به مرفوعاً. وقد اعترف النحاة بذلك، لكنهم قالوا إنْه لا يجوز القياس عليه... ويرجح في ظني أنّ هذا التساهل في قواعد الإعراب عند عرب الجاهلية يؤيد رأي الأستاذ إبراهيم مصطفى. فهو يدل على أنّهم كانوا لا يعرفون القواعد المعقدة التي جاء بها النحاة أخيراً، إنما كانوا يتبعون بدلاً عنها قواعد بسيطة ويجرون فيها على سليقتهم. ومن شأن السليقة أنّها قد تخالف القواعد أحياناً عندما تأمن الالتباس. ولهذا جاء القرآن بتلك الآيات المخالفة لقواعد الإعراب فلم يستنكرها العرب أو يجدوا فيها ضيراً. ولو كانت مستنكرة لاستغلتها قريش في ثلب محمد وثلب قرآنه“ [92] .
وأما بخصوص القول بمخالفة بعض الآيات القرآنية لقواعد اللغة، فيقول الدكتور الوردي: ”وهناك ناحية أخرى ينبغي أنْ نلتفت إليها في هذا الصدد، إنّنا لا يجوز أنْ نعزوا إلى القرآن أخطاء نحوية، بل يجب أنْ نعزو تلك الأخطاء إلى النحو نفسه فالقرآن نزل بلغة العرب، وكان نموذجاً رائعاً للفصاحة العربية. فلو كان فيه خطأ لما سكت عنه الخصوم“ [93] .
وأردف قائلاً: ”ومعنى هذا أن النحاة المتأخرين استنبطوا لنا من لغة العرب قواعد غير صحيحة، بحيث جعلونا نكتشف في القرآن أخطاءً نحوية. فالمفروض في قواعدهم أنْ تكون مطابقة للقرآن، لا أنْ يكون القرآن مطابقاً لقواعدهم. ونحن مخيرون بين أنْ نكذب القرآن أو نكذبهم!“ [94] .
وعليه؛ فإنّ ما صوره بعض النقاد من أنّ السيد الحيدري قدم نقده للغة نتيجة عدم تمكنه منها أو أنّه أعتمد في النقد الذي قدمه على الدكتور شحرور[95] أو أي شيء من هذا القبيل غير مبرر ولا أساس له، ويبدو لي أنّ من يقولون هذا الكلام لا يعلمون بأنّ نقد القواعد اللغوية مسألة قام بها العديد من العلماء المتخصصين في دراسات اللغة العربية، فالمسألة لا تقتصر على الدكتور شحرور فقط، ولا هو أول من بدأ الحديث فيها، بل هناك العديد من العلماء الذين وجهوا نقداً للغة العربية في نحوها وصرفها و... إلخ، وكتبوا كتباً متعددة لبيان ذلك، وإني إذ أؤكد على هذه النقطة فلكي أكشف للقارئ عدم صحة ما صوره البعض من كون اعتراض السيد الحيدري ونقده للغة مبني بالضرورة على جهله بقواعدها وأصولها، وفيما يلي أسماء الكتب التي أُلفت في هذا المجال مع أسماء مؤلفيها:
§ كتاب «الرد على النحاة» لابن مضاء القرطبي.
§ كتاب «من أسرار اللغة» للدكتور إبراهيم أنيس[96] .
§ كتاب «إحياء النحو» للدكتور إبراهيم مصطفى[97] .
§ كتاب «في النحو العربي. نقد وتوجيه» للدكتور مهدي المخزومي[98] .
§ كتاب «تجديد النحو» للدكتور شوقي ضيف[99] .
§ كتاب «دراسات نحوية في النقد العربي» للدكتور عبدالرحمن محمد أيوب[100] .
§ كتاب «دراسات في علم اللغة» للدكتور كمال محمد بشر[101] .
§ كتاب «التصريف العربي من خلال علم الأصوات الحديث» للدكتور الطيب البكوش[102] .
§ كتاب «اللغة العربية مبناها ومعناها» للدكتور تمام حسان[103] .
فجميع هؤلاء الأعلام لم ينقدوا اللغة نتيجة جهلهم بقواعدها وأصولها، بل نقدوها مع علمهم بها وعلمهم بتوجيهات النحويين وتأويلاتهم للإشكالات المطروحة على بعض مسائلها.
والغريب أنّ بعض النقاد ذهب للقول بأنّ السيد الحيدري نقد اللغة وقواعدها لكونه ضعيفاً فيها أو لأنّه لم يقرأ كتاب سيبويه ولم يفهمه جيداً[104] ، ولا أدري ما هي العلاقة بين قراءة كتاب سيبويه وبين التمكن من قواعد اللغة؟! وما يجعلني أقول ذلك هو الآتي:
§ أولاً: أنّ محقق كتاب سيبويه الدكتور محمد كاظم البكاء يذكر أنّ ابن عقيل - وهو عالم لغوي كبير - في شرح منظومة ابن مالك لم يكن دقيقاً في نسبة بعض الآراء إلى سيبويه، مما تسبب في نسبة بعض الآراء غير الصحيحة إليه، ومع ذلك لا يمكننا القول بأنّ ابن عقيل ضعيف في اللغة أو أنّه يجهل قواعدها[105] .
§ ثانياً: إنني أتعجب كثيراً من بعض النقاد، لأنّنا نجدهم يستعرضون أنفسهم أحياناً وكأنهم خبراء باللغة العربية وبالكتب التي تدرس فيها ك قطر الندى وشرح ابن عقيل، وخبراء في الوقت نفسه بكتاب سيبويه أو ببعضه على الأقل[106] ، ومع ذلك نجدهم لم يكتشفوا عدم صحة بعض ما نسبه ابن عقيل لسيبويه مع كونهم قد درسوا كتابه، إذ لا أدري كيف يظهرون أنفسهم بهذا المظهر ويقومون بمحاكمة الآخرين رغم أنهم لم يلاحظوا ذلك ولم يشيروا إليه.