الحداثة بين المفهوم الخاص والمفهوم العام
من التساؤلات المعرفية والنقدية المهمة المتعلقة بالحداثة، التساؤل حول مفهوم الحداثة هل هو مفهوم خاص أم هو مفهوم عام؟
بمعنى هل أن مفهوم الحداثة هو مفهوم خاص بالغرب يتأطر بثقافته وتراثه وتاريخه، ويتحدد به، وينحصر عليه، ولا يتعداه إلى غيره، فهو المخول بالحديث عن هذا المفهوم دون سواه، وهو المعني بتحديد ماهية هذا المفهوم وهويته، مادته وصورته، وجهته ومساره!
أم هو مفهوم عام ظهر في كل الحضارات، وعرفته جميع المدنيات، وعبرت عنه مختلف التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني في أزمنته القديمة والحديثة، ومن ثم فهو مفهوم عام لا يحق للغرب أن يحتكره لنفسه، ويعلن تملكه، ويكون وصيا عليه، وإنما يحق للحضارات والمدنيات الأخرى أن تكون شريكة في التعبير عن هذا المفهوم، وبلا وصاية أو احتكار من أحد!
أمام هذا السؤال الجدلي والإشكالي، يمكن القول إن مفهوم الحداثة هو مفهوم خاص من جهة، ومفهوم عام من جهة أخرى، بلا تناقض أو تعارض، مفهوم خاص من ناحية المبنى، ومفهوم عام من ناحية المعنى.
من ناحية المبنى، فإن الحداثة بهذا الرسم للكلمة، وبهذا النطق اللساني هي من ابتكار الغرب، وتحسب من هذه الجهة على الأدب الأوروبي الحديث، وفي هذا النطاق تحدد المعنى الخاص لفكرة الحداثة، والذي أراد منه الغرب أن يعبر من جهة عن طبيعة تجربته الفكرية والتاريخية، والتي هي بلا شك تعد واحدة من أضخم التجارب الفكرية في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، ويعبر من جهة أخرى عن طبيعة رؤيته لفلسفة التقدم والتمدن.
ومن ناحية المعنى والمفهوم العام، فإن مفهوم الحداثة قد تمثلته وعبرت عن روحه وجوهره جميع التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني، فهذه التجارب هي حالات وأنماط من التقدم، ومعبرة عن روح التقدم وفلسفته، وهذا هو جوهر الحداثة وروحه.
وما من حضارة ظهرت إلا وكانت حضارة حديثة وحداثية، ومعبرة عن الحداثة في أبها صورها، وأرفع درجاتها، وأعلى مراتبها، وليست هناك حضارة لا تعد حديثة وحداثية، ومعبرة عن الحداثة في معناها العام، وكل حضارة في عصرها هي حضارة رائدة في الحداثة، ومعبرة عن مركز الحداثة في عصرها، الحداثة بمعنى فلسفة التقدم.
وما هو ثابت أن التاريخ الإنساني قد مرت عليه وبلا توقف حضارات عدة، قبل الغرب كانت هناك حضارات، وبعد الغرب ستكون هناك حضارات أيضا، الأمر الذي يعني أن الحداثة قد مرت على كل هذه الحضارات التي كانت قبل حضارة الغرب، وستمر على الحضارات القادمة بعد حضارة الغرب.
وبهذا اللحاظ فإن الحداثة قد مرت على الحضارة الإسلامية كما مرت على الحضارات الأخرى، وأن الحضارة الإسلامية مثلت محطة من محطات الحداثة، ورافدا من روافدها، ومسارا من مساراتها.
لكن الذي يختلف بين هذه الحضارات هو نوعية الحداثة التي تتصل بها ودرجتها، فالحضارة الصينية مثلا لها حداثتها نوعا ودرجة، والحضارة الهندية كذلك لها حداثتها نوعا ودرجة، وهكذا الحال مع الحضارات اليابانية والأمريكية والإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى، بما في ذلك الحضارة الغربية.
والاختلاف في الحداثة نوعا ودرجة ناشئ من تأثيرات عوامل المكان والزمان وظروف البيئة من جهة، وعالم الأفكار ونظام القيم والأخلاق من جهة ثانية، وطبيعة التجربة والخبرة من جهة ثالثة، وهي التأثيرات التي تؤثر على جميع الحضارات وتكوّن طبيعتها ومزاجها وبنيتها وروحها العامة.
هذه هي صورة الحداثة بين المعنى العام والمعنى الخاص، ويتصل بهذا المنحى النقاش الفكري والنقدي العابر بين الأمم والمتمحور حول هل توجد حداثة أم حداثات؟ فهناك ميل لتقبل فكرة الحداثات المتعددة والمختلفة، الأمر الذي يفك علاقة الارتباط بين الغرب والحداثة، ويجعل طرق الحداثة متعددة لا تنحصر في طريق واحد هو طريق الغرب، ويفتح المجال أمام تبلور نماذج من الحداثات المختلفة عن حداثة الغرب.