هل من سبيل للخروج من المأزق الراهن؟!
أكثر من مئة وخمسين عاماً انقضت، منذ بدأ عصر التنوير العربي وأخذ العرب الحديث، يناضلون من أجل تحقيق الاستقلال والتنمية وبناء المجتمع العربي الموحد، ولم تنبثق بعد شمس حضارة عربية ومشروع نهضوي عربي جديد يوضع قيد التنفيذ.
واجه العرب الوجود العثماني، فرادى ومجتمعين بأشكال مختلفة، وانخرطوا في استراتيجيات القوى العظمى في مسعى لتحقيق استقلالهم ووحدتهم، وكان المآل أن سقطت امبراطورية الرجل المريض بالأستانة، لنواجه بامبراطوريات عاتية أكثر فتوة وقوة. لم تتح هشاشة هياكلنا الاجتماعية، وعجز القيادات التقليدية ومراوحتها بين التقليد والمعاصرة، القدرة على مقاومة القوى العاتية الجديدة. فكانت النتيجة أن سحقت آمالنا وتطلعاتنا في الحرية والاستقلال والوحدة، تحت جنازير الدبابات البريطانية والفرنسية، ووضعت مقدمات التفتيت واغتصاب فلسطين، كأهم معلمين من معالم إسقاطات الحرب الكونية الأولى على واقعنا العربي.
ولم يمر سوى عقدين من الزمن، حتى اشتعلت الحرب العالمية الثانية، وكانت أكثر هولاً وتدميراً، وبات الأهم والأبرز بين نتائجها، تضعضع الاستعمار التقليدي، وتهاويه في كثير من المستعمرات التي تمكنت من انتزاع استقلالها. ولم تكن الأمة العربية، استثناء في المعارك الضارية التي شنت في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لانتزاع صكوك الاستقلال من البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والأسبان.
في نهاية الستينات، وبداية السبعينات من القرن المنصرم، حصلت معظم الدول العربية، على صكوك الاستقلال، وبقي الجرح النازف في فلسطين، حتى يومنا هذا. لكن ذلك لم يخرجنا من التاريخ إلى التاريخ. بقينا أسرى ومكبلين في سرديات التاريخ وتأويلاته، ولم نتمكن من الولوج بقوة إلى التاريخ، في صخبه وغليانه ودينامياته.
ورثنا ولا نزال، ما وصفناه في صدر هذا الحديث بالمراوحة، بين التقليد والعصرنة، التي اتخذت أشكالاً وأوجهاً مختلفة، استطاعت التسلل إلى هياكلنا وخلايانا. فكان تاريخنا، في جله، منذ العشرينات من القرن المنصرم،
وبعيداً عن الاستغراق في قراءة التاريخ، نقفز للواقع الراهن، الذي بدأ مع ألسنة النيران التي اشتعلت بمدينة نيويورك والعاصمة واشنطن في 11 سبتمبر عام 2001، حين دُمّر برجا مركز التجارة العالمي، وأعلنت على إثرها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن حرباً عالمية ضد الإرهاب، اتخذت من منطقتنا منطلقاً لها، وكان تدمير أفغانستان، واحتلال العراق، هما الفواتير الجديدة الأولى في مصروفاتنا، في تلك الحرب، التي لم يكن لنا ناقة فيها أو جمل.
كتب الكثير عن الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، باعتبارها نهاية التاريخ، وأنها المرحلة التي سيُقضى فيها على الإرهاب والأنظمة الديكتاتورية، وتُبنى فيها الديمقراطيات العتيدة ببلداننا العربية، وأن العراق سيكون المختبر الذي يؤسس فيه مشروع الدمقرطة. ليتبع ذلك بعد أقل من ثماني سنوات انطلاقاً مما يسمى» الربيع العربي»، باعتباره عهد الانعتاق وتحقيق الكرامة الإنسانية، وتحقيق المصالحة بين الحداثة والإسلام المعتدل، وسيادة دولة القانون.
وكانت مراوحة أخرى، من نوع فريد، تسببت في شلالات غزيرة من الدم في بقاع عربية كثيرة، كان الأبرز بينها ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، وسقوط كيانات وطفو هويات سحيقة واختفاء دول، ومئات الألوف من القتلى وعشرات الملايين من الجرحى والمهجرين والفارّين بجلدهم من الموت إلى خارج أوطانهم.
استبدلت شعارات الحرية والكرامة، بأمراء الطوائف ومافيات الخراب والتدمير، واستعادات كاريكاتورية ومشوهة للخلافة الإسلامية. وكان حضور تنظيم «داعش» هو الأبرز في مشرق الوطن العربي، وتحديداً وبشكل أكثر وضوحاً، في العراق وسوريا، حيث هتك الأعراض وسبي النساء والقتل على الهوية، وانتهاك الكرامة الإنسانية.
وغابت وسط الضجيج شعارات الحرية والكرامة، التي رفعها الجمهور في الميدان في عشرات المدن العربية. واختفت أسماء النجوم التي صاحبت بدايات خريف الغضب، لتحل معها شعارات معادية للتمدين والتحديث والعلم والحضارة.
ومجدداً عدنا للمربع الأول، حيث بات درب السلامة، والعودة إلى ما قبل أحداث «خريف اللهب»، هو جل ما نطمح له في هذه المرحلة. ولم تعد شعارات الحرية والوحدة والعدل الاجتماعي مطلباً، رغم أنها هي وفقاً لتحليلاتنا وقراءاتنا السابقة، ووفقاً لما أثبتته الوقائع التاريخية، هي سبيلنا لكي نكون شركاء مع بقية العالم، في صناعة العصر الذي نحياه. وأيضاً هي طريقنا لضمان أمننا الوطني والقومي، وحماية أمتنا من العدوان.
نحن بحاجة لأن نتجاوز عقلية المراوحة، بين معوقات النهضة وأن ندفع بعناصرها بقوة. ولن يكون ذلك ممكناً، إلا بالتصدي المباشر لهياكلنا الاجتماعية المتهلهلة، وبناء هياكل متينة جديدة، قادرة على خلق ثقافات وعادات ومنظومات أخلاقية جديدة، تحترم دور الفرد، وتؤكد المساواة بين الرجل والمرأة، وتعتمد خططاً تنموية حقيقية، تتخذ من القدرات والمحركات الذاتية، أسساً لها للانطلاق لبناء المستقبل الواحد.
لن يكون لهذه الأمة مستقبل وقدرة على النهوض، والولوج في التاريخ إلاّ بتجاوز ضعف تشكيلاتها الاجتماعية، وتجاوز سياسات المراوحة، والإيمان بالعلم الحق والعمل الحق، وعندها نكون قد وضعنا أقدامنا على السكة الصحيحة.