هلال الطفولة
مثل فزورة بلا جواب كان هلال العيد يتدلى على نافذة طفولتنا، ننتظر الأخبار التي لا تأتي إلا متأخرا، فوسائط الإتصال كانت تقتصر على الهواتف الثابتة، سنعلق كل آمالنا على صوت واحد من رجالات العائلة، هو الأقرب غالبا من دوائر أهل الدين، القلب الصغير لا يفهم كل التفاصيل التي تتوارى خلفها عملية إثبات الهلال، لكن الشيء الوحيد الذي يعرفه أن الحيرة سيدة المشهد في كل مرة يتأخر فيها إثبات الهلال.
لا نعرف إن كان الهروب من الصيام هو ما يدفعنا للشوق للعيد، أم مشهد الفرح والركض باتجاه العيديات، فقد صيرنا النهارات الساخنة ملاعب لكرة القدم، بلا اكتراث لارتفاع الشمس نركل الدقائق والساعات حتى آخر لحظة عطش ستكون بمثابة إيذان بالعودة إلى البيت، والذي سيصبح فسحة للنوم حتى يختفي كل أثر للنهار.
الهلال الذي سيغيب عن أنظارنا هو درسنا الأول في عالم الاختلاف الفقهي، فلطالما انولدت حكايا العيد ومازال جدي لأبي يحتمي بالصيام، لأن شيخه لم يجد ما يدعوه للإطمئنان برؤية الهلال، يصبح الارتباك عنوانا لهذا العيد الذي لن يكتمل دون زيارة عتبات ذلك البيت العتيد، بيت العائلة الممتدة، والتي تجد صورتها مكبرة في زوايا مجلس الجد.. حتى إثبات الهلال بحاجة إلى مفاوضات، هذا ماتحكي عنه القصص التي أرهفنا لها السمع عن غياب ذلك الشيخ المتكرر عن اجماع المنطقة في ثبوت الهلال، فيدفع القوم بالشاهد تلو الآخر، من أجل أن يخرج شيخ المحافظين عن صمته ويصرح للتابعين بانقضاء شهر الصيام.
ليس عيدا ذلك الذي يأتي بلا تشويق، بلا مساحة لاحتمالات الاختلاف، هكذا عهدناه، وهكذا دوزنا عواطفنا في انتظاره حتى آخر دقيقة من ليلة الاستهلال، لذلك سيبدو هلال الفلكيين خاليا من الدسم، يشبه ذاك اليقين المتهكم الذي يجعلنا نثق بأن هنالك دائما من سيصطاد الهلال عند الجماعة الأخرى، وكأن حسم الشهر قبل ثلاثينه هو القدر الدائم مع نشرة الأخبار الرسمية.
نحب العيد في صورته المشحونة بالارتباكات، كمباراة لا تحسم نتيجها إلا صافرة الحكم، نحب العيد الذي يروضنا على السؤال عن معنى الاختلاف ويهبنا القدرة على التعايش معه، العيد الذي ينهض على حد التآويل الدينية لنصوص وأفكار مازالت تحتضن التاريخ وهي تريد اكتشاف الحاضر والمستقبل، ولو عدنا لطفولتنا لما اخترنا عيدا غير العيد الذي ننتظره كحلم، ونمشي إليه على جمر الشك، ونعلم بأنه قريب حد الغياب!.