آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

النظرة الأُحادية

ابراهيم الزاكي

في الحوار الناجح يفترض أن يكون لكل صاحب رأي وجهة نظره الخاصة، فكلٌ ينطلق في رأيه من الزاوية التي يقف فيها. لأن كل طرف يرى جزء من الحقيقة لا كامل الحقيقة. فما يراه طرف قد لا يراه الطرف الآخر. وهذا الطرف الآخر هو أيضاً يرى الأمور من الزاوية التي يقف فيها، والمختلفة عن موقع الطرف الأول. لذلك فإن اختلاف وجهات النظر بين المتحاورين هو أمر طبيعي نتيجة اختلاف الموقع والزاوية التي ينظر من خلالها كل طرف إلى الفكرة، أو الموضوع، أو القضية، الخاضع للبحث والنقاش.

لذا فإن مناقشة ظاهرة من الظواهر الحياتية من زاوية واحده يعد أمراً ناقصاً وغير مكتمل إن لم تُرى من جميع جوانبها المختلفة، وذلك للخروج بصورة متكاملة عن الظاهرة أو الموضوع الخاضع للنقاش. غير أن المشكلة تكمن حين يتم النظر إلى الأمور بنظرة أُحادية، ومن زاوية واحدة فقط، وبعيداً عن النظرة المتعددة والشاملة، أو الاطلاع على الموضوع من جميع زواياه المختلفة.

ومع أن "النظرة الأحادية لظاهرة من الظواهر لا تعني بالضرورة أنها خاطئة، لكنها ببساطة شديدة غير كافية. إنها ناقصة لأنها لا ترى سوى جانب من جوانب الظاهرة، وبالتالي فإنها لا تحيط بها، وعلى هذه النظرة الناقصة تنبني استنتاجات خاطئة أو غير دقيقة، والمرجح، لا بل وربما المؤكد أيضاً، أن هذه الاستنتاجات ستكون مختلفة لو أن النظرة كانت شاملة، أو بانورامية، تحيط بالظاهرة من شتى جوانبها، لا من جانب واحد.

ويمكن أن تأتي النظرة الأحادية نتيجة جهل، أو قلة معرفة، أو محدودية في الرؤية، وبالتالي فإنها، في حال مثل هذه، نظرة بريئة، لا يضمر أصحابها شراً أو ضغينة. كل ما في الأمر أنهم لا يمتلكون ما يكفي من أدوات التحليل والنظر التي تجعل رؤيتهم أشمل وأوسع". [1] 

لكن حين يعمل كل صاحب رأي على تأكيد وجهة نظره بشكل أُحادي، ويصم آذانه عن الرأي الآخر، ومن دون أيّ استعداد للحوار والمناقشة، أو السعي لجمع المعلومات والمعطيات حول موضوع المناقشة، فإن ذلك سوف يؤدي إلى اختصار الحقيقة في وجهة نظر واحدة، وربما الخروج باستنتاجات خاطئة أو غير دقيقة، وبالتالي تعطيل الوصول إلى الحقيقة بشكلها الكامل والشامل.

وعليه فإن من أهداف أي حوار ليس فقط تلاقح الأفكار، بل توسيع دائرة النظر في القضايا المطروحة للنقاش، من أجل الوصول، إن أمكن، إلى الرأي والفكرة الأفضل من خلال التقصي والبحث، لتكوين النظرة الشاملة حول موضوع البحث. وليس شرطاً أن يتنازل طرف عن آرائه وقناعاته للطرف الآخر، أو أن يرضخ له. فمن حقّ كلّ صاحب رأي أن تكون له اجتهاداته وآراؤه وقناعاته، بحيث يشرح كل طرف فكرته في الموضوع المطروح للنقاش، ويبدي برأيه حوله، وذلك بطريقة يستوعب فيها كل طرف فكرة الآخر ورأيه بشكل واضح وصحيح.

لكن من دون هذا الفهم سيتحول الحوار إلى حوار طرشان، حيث يبتعد الحوار عن مساره الصحيح، ويتيه في صخب الجدال العقيم. فالحوار يتطلب الإنصات للآخر، وإعطائه الفرصة للتحدث، وسماع ما يود قوله، والإصغاء له من أجل فهمه. فالإصغاء للآخر وفهمه بالشكل الصحيح يساهم في تجسير الفجوة بين المتحاورين، ويعيد بناء خطوط التواصل الإنساني بينهم، ويعزز اللحمة الاجتماعية، ويهدم جدران التشاحن والتباغض والتفرقة، ويدفعهم للعمل بشكل مشترك لإيجاد الحلول المناسبة لقضاياهم.

وغني عن القول بأن الحوار هو أفضل وسيلة لتبادل الآراء والأفكار حول أي قضية بهدف الوصول إلى اتّفاق حولها. إلا أن البعض يخرج أداءه في الحوار عن جادة الصواب، حيث تتوتر أعصابه، ويتشنج، وينفعل بطريقه هستيرية، تفقده حالة التوازن. فتراه يدافع عن رأيه ووجهة نظرة بشكل أعمى، وينظر إلى الأمور بأسلوب تضادي بعيداً عن الموضوعية أو الحيادية، ولا يبدي أي استعداد للاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، والبحث عن الحقيقة بشكل موضوعي وحيادي، بل ربما يسعى إلى قلب الحقائق وتزويرها ما دام ذلك يدعم رأيه ووجهة نظره، أو يُدين الطرف الآخر الذي يختلف معه.

إن المتعصب لرأيه يحسب أن رأيه هو الرأي الأوحد، وهو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ. فهو لا يؤمن بتعددية الآراء والأفكار، ولا يقبل بالرأي الآخر وحقه في التعبير عن قناعاته وأفكاره، وليس لديه الاستعداد للحوار مع الآخر في إطار البحث عن الحقيقة، ولا يحسن التعامل مع الرأي الآخر المختلف، أو المخالف، بطريقة حسنة وودية تؤكد استعداده للحوار والنقاش معه في إطار البحث عن الحقيقة.

وإذا لم يستطيع هذا المتعصب لرأيه في إقناع محاوريه بمنطقية أفكاره، وأن يجعلهم يولونها الاهتمام المناسب، ويعجز عن مقارعة الحجة بالحجة، تراه يثور ويغضب، ويعتبر الأمر فيه إهانة شخصية له، ويأخذ في الابتعاد عن الموضوعية، ويشخصن الأمور، ويوتر الأجواء برفع صوته من دون مبرر، ويبدأ في الاستهزاء بمحاوريه، والتهكم عليهم، ويقحم مفردات ملغومة تزيد الحوار تعقيداً، وتقطع حبل الود معهم.

إن خلاصة ما نود قوله في نهاية هذه المقاربة هي أننا بحاجة إلى أن نرى الأمور من جميع جوانبها المختلفة، والابتعاد عن النظرة الأحادية للحقائق، والاطلاع عليها من جميع زواياها المتعددة والمختلفة. بيد أن هذا الأمر لن يتحقق إلا بتعويد أنفسنا وتدريبها على تقبل الرأي الآخر واحترام فكرته، والاستعداد لمعرفة وجهة نظره، والاستماع إليها بشكل كامل، ومناقشتها بشكل موضوعي وحيادي، وذلك في جو من الهدوء ورحابة الصدر.

[1]  الحقيقة الناقصة. حسن مدن. جريدة الخليج الإماراتية.