نزاهة النفس وقاية من المذلات
ورد عن أمير المؤمنين : «من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته» «عيون الحكم والمواعظ ص 437».
عمى البصيرة عن رؤية حقائق الأمور ومآلات الدروب والمخاطر المكتنفة للغفلة وتجاهل المحجة البيضاء للعقل، هي نتاجات إلغاء دور العقل ووضعه جانبا وتقديم بوصلة أخرى يتبعها، إنها الاستجابة السريعة لكل مثير لغرائزه مهما كانت نتائجه الكارثية، فالشهوة لا تقف عند حد معين بل هي استرسال النفس في عالم النزوات بلا كاشف أو معرف له بالمقدار الكبير الذي توغل فيه، ولا يستشعر المرء حينئذ ظلمة البعد عن الله تعالى وما وصل إليه من سوء حال ينذر بحلول النقمات، وأي عقوبة أعظم من تسلط شهوته على فكره وإعراضه عن ذكر الله تعالى والحرمان من مناجاته، فقلبه القاسي جف منه الأنس الروحاني.
ولا سبيل إلى يقظة فكره وتنبه وجدانه وحذره من سقطات النفس إلا تقدير ذاته وضبط إيقاع أفعالها وفق هذا التصور الواضح، فالبهائم تحركها الشهوة لإشباع غرائزها بلا أدنى لحاظ لأمر آخر، بينما الإنسان كائن أكرمه الباري حين خلقه وميزه بالعقل والنظر لأي خطوة يريد أن يتقدم إليها أو قرار يتخذه، فإن أراد لنفسه العلياء والتحليق في فضاء التكامل وتجنب كل ما يسيء لها ويلحق بها التشويه والضرر، ويتسافل بها إلى مستوى متدني يفقد معه أهم ما يرفع شأنه وهو القرار المبني على نظر وتأمل فكري، فالإنسان أمام مسارين عليه أن يسلك ما يناسبه ويرغب فيه، فإما أن يعلي قيمة نفسه فيتجلى ذلك في ومض فكره النير وسلوك المتسم بالاستقامة والطهارة من القبائح والعيوب، وإما أن يتخلى عن إنسانيته المتعقلة فيبقى في الحقيقة جسدا يتحرك وفق رغباته المادية، فلا يختلف وقتها عن البهائم التي تبحث عن مطعمها وتناسلها بأي طريقة.
عندما يحمل المرء شعورا بمكانته ومخاطر الانصياع للشهوات التي تذله وتحط من شأنه يترفع حينها عن القبائح والخطايا، وهذا المقام العالي وهو إكرام نفسه المتسامية عن تناوش الملوثات لجمال نفسه الزاهية بزينة العقل فلا يشوه هذه الصورة الجميلة قيمة كبيرة يعمل على الحفاظ عليها، فإن كان يولي اهتماما بنفسه ونزاهتها من الدنس فليتنبه من عثرات الطريق، مستحضرا هذه القيمة العالية لها في كل تصرفاته وأقواله فلا يلحق بها ما يحط منها، وهذا التقدير النشط لها واحترامها ينعكس على تفكيره فلا يخلد إلى الشطط، ويحفظ وجدانه من المشاعر السلبية فالحقد والكراهية لا يليق بمن يروم المجد والكمال، ويحفظ نفسه من الاسترسال في الشهوات خارج قنواتها الشرعية والعقلية، وصونا لنفسه من كل ما يلحق بها التهاوي في وحل النزوات المذلة والتي تفقده مكانته العالية.
فإن وجود الشهوات يفرض على الإنسان الكريم التعامل معها بمنطق مجاهدتها والانتصار عليها، من خلال تغليب منطق «كرامة نفسي» الذي يقيه من الانزلاق في مهوى الشهوات، وإما أن يكبل إرادته فلا ينمي فيها روح الممانعة والمقاومة فيخلو فعله من العزم القوي، بل يخور ويتهاوى أمام إغراءاتها.
والرقابة الذاتية على كل ما يصدر منه تحتاج منه إلى وعي وإدراك بما يعلي شأنه من الوقوع في المسقطات، ولا تسعفه الأماني الكاذبة والرغبات الخاوية بإكرام نفسه، فالحياة ميدان صراع عليه أن يحصن نفسه فيه بعزيمة لا تلين وهمة عالية لا تستجيب لهتاف الشهوة المثير.