نحو مجتمع متعايش مع الأفكار
ذات مرة دخلت مع مجموعة من الأصدقاء في حوار فكري خارج المألوف، كان الوضع طبيعياً جداً والكل مسرور بالنقاش وتبادل الأفكار، ثم فجأة إنفجر أحدهم غاضباً وقام بالصراخ، نجح هذا الشخص بعد موقفين أو أكثر في تكميم أفواهنا أمامه.
مثل هؤلاء الأشخاص يتواجدون بيننا بكثرة ويعيشون حالة سلبية من الرفض للتفكير خارج الصندوق، وتتنوع أساليبهم من الصراخ إلى السب والشتم إلى التفسيق وتشويه السمعة إلى الإقصاء والتهكم والسخرية إلى التحشد المقيت ضد الرأي المخالف للفرد في جماعة مضادة مهاجمة شرسة إلى إيقاع العقوبات الإجتماعية بحجج دينية إلى ربما الضرب إن تطلب الأمر... الخ. وهذا كله ينهي كل تلك النقاشات الفكرية الممكنة في ساحة الفكر، ليحولها إلى مهازل ومزابل، لا تتكرر إلا كاختناقات واحتراقات مؤلمة، بدل أن تكون حقولاً خصبة لتنمية الأفكار والرؤى والتطلعات.
وقد لا تعتقد أنك واحد من هؤلاء الجهلة، أو لا أعتقد أنا ذلك، لكن ذلك بحاجة حقاً للفحص. فواقعنا موبوء جداً، ومولد لثقافة العداء للآخر المخالف حتى النخاع، وللإستعلاء على العقائد الأخرى حتى مرحلة طمس كامل العقل. لذا عليك أن تسأل نفسك وتسائلها ألف مرة، وأن تفحص سلوكك وتحاسب تلك النفس بقسوة، واضعاً كل انفعالاتها وأطروحاتها على مقياس مدى تقبلها لطرح الأفكار المخالفة عليها، ومدى قدرتها على التصالح مع الإختلاف، الذي هو سنة هذه الحياة المتشعبة والمتنوعة.
إننا إذا تأملنا تاريخنا بإنصافٍ ووعي، سنجد أن البعض قد غرس في الماضي عبر طوله وعرضه، ثقافة العداء للأفكار والعقائد المخالفة، وأصلوا لذلك من الكتاب والسنة، عبر فهمهم الساذج وتفسيرات خاطئة واشتباهات وقصور في الإدراك والمعارف، حتى ولدوا ثقافة دينية وشعبية معادية للإختلاف والتنوع يصعب الخروج عليها ومنها، وهذا ما يجب الوقوف عليه ومحاكمته لإحداث الإصلاحات الكبرى في الأمة.
لقد جاء الزمن الذي يجب أن تكسر فيه ثقافة التلقين والحجر الفكري والتشدد الديني والإجتماعي.
إن فكرة محاربة الإختلاف، مبنية غالباً على أفكار حفظ العقيدة والمحافظة على الأصالة، والواقع أنه يستحيل أن تبنى العقائد الصحيحة الحقة الداعية إلى العدالة والعقل، على التجهيل وأحادية الفكر ورفض الإنفتاح الفكري على كل الأفكار لنقض الباطل منها وتثبيت الصحيح، فما لم تكن مقارعة الحجة بالحجة هي البانية للعقائد والأفكار، فلن يكون سوى الجهل والتجهيل وإيهام الذات بالعقائد الحقة والأفكار الصحيحة، وهذا ما مارسه أكثر الماضين، بخلاف رسالات رسل رب العالمين.
وإن من المعيب أيضاً حقاً التمسك بالأصالة لبريقها أمام مشاعرنا وعواطفنا البلهاء، للأصالة ذاتها باعتبارها قيمة براقة عاطفياً ضد المعاصرة التي تعتبر وليدة مخالفة يصعب تقبلها، إذا كانت المعاصرة هي من يقدم الأفضل.
فالتمسك بالأصالة للأصالة ذاتها فقط، يعني أننا حمقى، نتمسك بمصابيح الزيت لأنها تمثل الأصالة، ونرفض المصابيح الكهربائية التي تمثل المعاصرة، فقط لأن بريق التراث أمام مخيلاتنا يلهب مشاعرناً ويسحرنا فنغدوا حمقى، نثرثر بأن الماضي أفضل، بعيداً عن المحاكمات الموضوعية للأحداث والظروف والواقع.
إن استمرار هكذا تفكير سخيف سطحي سيخنقنا في سجن من سجون التخبط مصنوع من جماجم وعظام أهل المقابر التي قدسناها، لنصبح كالعاجز يحاول أن يحيي العظام وهي رميم، فيهلك الحرث والنسل في سبيل جهله، يضحي بالجيل الجديد من أجل الحنين لجماجم الماضين الذين إفتقدهم.
إن الإنعتاق من أسر أوهامنا، يأتي عندما ندرك أهمية التسامح في الساحة الفكرية وضرورة التصالح مع الإختلافات كضرورة حياة، باعتباره هو الكنز المخبوء فينا، والمولد الحقيقي للنهضة الفكرية في أمتنا، ولازدهار الأفكار وإيناع الثمار بإذنه تعالى.
وهنا يجب أن توجه الرسالة للجيل الشاب تحديداً، وهو محل التحدي والإهتمام، لإشعاره بأهمية وضرورة تغيير الواقع في الساحة الفكرية، لترتقي الأمة للأفضل. فالشباب هم سلاحنا في وجه تخلف ماضينا، وهم الأقدر على خلق ذلك النهوض بالأمة المرتقب، وصناعة نجاح هكذا مشروع تنويري ثوري على مستوى الأفكار، وهم الأكثر قدرة على إدراكه وفهم ضرورته وأهميته، حيث قدرتهم على استيعاب الأفكار واستيعاب الجديد، واستيعاب أننا بقبولنا بالمعترض الفكري الواحد نضع تحدياً ناهضاً واحداً أمامنا، وبقبول إثنين سنضع تحديين، وبقبولك بثلاثة معترضين ستضع أمامك ثلاثة تحديات... وهكذا، فكلما نمت التحديات أمامك نمت الأفكار والإستدلالات، وهذا ما من شأنه أن يقوينا فكرياً، وأن يفتح أعيننا على أخطائنا وعيوبنا، وعلى أكثر من زاوية من زوايا التفكير ومعرفة الحياة.
إن تحدي الأفكار هو تدريب وتفتيح للعقول خصوصاً تلك الصدئة المتحجرة، وضخ للأفكار النافعة، ومحاكمة ومحاسبة للفكر والمفكر خصوصاً ذلك المتهرب من المسؤولية والوعي، ومن هذا المنطلق يمكننا أن ننطلق لنقطة الوعي التي غيبنا وغبنا عنها كثيراً، بأن نقتحم ذلك النهج من الحوارات الحرة الراقية أدباً وخلقاً واستدلالاً.
إن هذا الإدراك النوراني تحديداً، هو ما يجعلني أتلذذ بتلك الأفكار والطروحات المخالفة أينما وجدتها، مخالفاً من يشمئزون وينفرون من أفكار المخالفين لهم، فأراها فرصاً ثمينة للرقي، تجلب لنا نشوة السعادة والمتعة والمنفعة الفكرية وتقوينا فكرياً، فلا تستوجب النفور والغضب الجاهل الذي يتولد في البعض منا عن جهل تام بطبيعة المعرفة والوعي والإعتقاد الصالح، حتى لو كان المحاور لنا قمة في الغرابة والخروج عن المألوف والمعتاد، بل والشيطنة أيضاً، فالأفكار هي ما يجلب الأفكار، وأعقل الناس كما يقولون هو من يجمع عقول الناس إلى عقله كما هو معروف، والله لم يمتدح في كتابه قلوباً عليها أقفالها، ولا من يصمون أسماعهم ويستغشون ثيابهم، بل امتدح من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وتراث السيرة يحثنا على طلب الحكمة ولو من أهل النفاق، وهذا كله يؤكد تلك الحقيقة التي ندعوا إليها.
ويبقى الإحترام والهدوء في الحوارات هو سيد الحوار والرقي والتفاهمات المطلوب لنجاحها وقوتها، بعيداً عن أسلحة الحوار وأمراضه الخبيثة، ولذا يجب أن نتذكره دائماً، وأن نكرر على مسامع الجميع وبصوت جهور، تلك الدعوة لأن نتصالح مع الآخرين جميعاً، من أجل الصالح العام، ومن أجل رقينا وتطورنا البشري المنشود، ليصبح حوارنا برداً وسلاماً وأمناً وأماناً ونفعاً ورقياً وتطوراً.