المشهد الآخر
الغاية المتوخاة من الصيام هي تحصيل ملكة التقوى، أي تقوية روح الممانعة والتحصين من الوقوع في براثن الآثام والخطايا، فإن البصيرة النافذة والإرادة القوية تمنع وتقف حائلا أمام أهواء النفس وشهواتها، والصوم يقوي جبهة المقاومة والتفطن لآثار حديثه وحواره وعلاقاته وتصرفاته قبل أن يقدم على شيء منها، جاعلا مرضاة الله تعالى معيارا يقيم من خلاله خطواته وقراراته، وهذا الثمر اليانع للصوم من صناعة الشخصية القوية للمؤمن يحين قطافه بعد تلك الدورة التدريبية بصوم الشهر الكريم.
فهذا الإمساك عن المفطرات - مع قدرته على إتيانها - يعزز علاقة نوعية مع خالقه عنوانها الإخلاص لله عز وجل والخوف من عظمته أو عقابه، ويقوي نفسه عندما تعاف وتتجنب ما يسخط الله تعالى من سيئات يقارفها، فليس هناك من يراقبه ويحاسبه ويتابع سير صومه إلا نفسه ولا يطلع عليه إلا الله تغالى، فإن صمد في مضمار الاختبار كان ذاك باعثا ومحفزا له على الانطلاق في ميادين الحياة وأواصر العلاقات بضمير يقظ يخاف الله تعالى ولا يداني المخالفات والممنوعات، فصبره على المعاصي ومقاومة الإغراء والتزيين بعد شهر رمضان هو امتداد لإمساكه عن المفطرات وتحمله لحالة الجوع والعطش، مع أن النفس تتوق لإشباع شهواتها وغرائزها دون توقف أو تأخير لولا حيلولة إرادته وضميره الذي يخاف الله تعالى، فتلك النفس التي تميل للدعة واللهو والكسل تقابل اليوم بإرادة وهمة عالية تدعو لانتهاز هذه الفرصة الثمينة، بالاستجابة للضيافة الإلهية ومحالفة محراب العبادة والقيم المعنوية المتحصلة منها، مما يعني نظرا لتحويل ساعات عمره بعد الشهر الكريم إلى محطات طاعة لله عز وجل، فالتسويف لا يعني إلا استمرارا في طريق تضييع الفرص والبوء بالخسران، وما عليه سوى المبادرة إلا اغتنام وقته وصحته ليرفد فكره بومضات معرفية وتعزيز روح المثابرة والمسارعة إلى إتيان الصالحات وفعل الخيرات وصناعة المعروف، فلا الوقت ولا الأجل سيمهله حتى يعبث.
في ختام المضمار الرمضاني وانتظار النتائج والمخرجات يمتاز الفائزون الغانمون، ممن لم يضيع وقته وبادر إلى جني الثمرات والهبات الروحية، وأما الخيبة والحسرة فتعانق من فرطوا وضيعوا وسوفوا، فلا ينفعهم الندم حينها ولا التحسر!
إننا أمام مشهد آخر يخالف الواقع الذي سبق الشهر الكريم، خصوصا وأن الصائم قد تعززت فيه الجنبة الجمالية من خلال اكتسابه الصفات الكمالية أو علو درجته فيها، فعنوان تعامله بعد اليوم هو الصدق والوضوح وتجنب الخداع والمكر والتلون، فضميره يستحضر وجود الله تعالى في قوله وفعله، كما أن النفس التي مارست العبادة من صلاة ودعاء وتلاوة القرآن الكريم لن تستنكف أو تكل من التقرب إلى الله تعالى طوال السنة، فليس من صفات الأريب أن يضيع مكتسباته حتى يعود إلى المربع الأول خالي اليدين من أي خير، وما أسرع استجابته للتوبة عندما تزل قدمه في وحل الخطايا المسخطة لربه.
ضبط النفس في خطاها وتوقفها أمام أي دعوة للخطية أو استفزاز من مسيء أو لحظة انفعال ثمرة لا يمكنه أن يترك قطافها، فالاتزان والتمسك بروح الحكمة ومحالفة جادة الصواب في مواقفه ثمرة مهمة تونق في شخصيته وتبدو بأبهى صورة، فقد مارس التهذيب والترويض لنفسه لمدة شهر كامل، أفلا يستمر على هذا المنهج ويحافظ على نفسه من هتاف الأهواء والشهوات؟!