آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

اللغو في الحوار

ابراهيم الزاكي

ثمة من يَتَمثَّل القول المعروف ”خذوهم بالصوت قبل أن يغلبوكم“ كوسيلة لإقناع الآخرين بأفكاره ووجهة نظره. فيتوسل رفع الصوت عالياً في تخاطبه وأحاديثه وحواراته قصد الفوز بها، ويعمل على ترهب محاوريه بالصراخ كي يستحسنوا آرائه، أو إكراههم على القبول بوجهة نظره، وربما إجبارهم على الاقتناع بما لم يكونوا مقتنعين به، كون ما يقوله هو الرأي السديد الذي لا يحتمل الخطأ، والحق المطلق الذي لا تشوبه شائبه.

بيد أن ما يحدث في حقيقة الأمر، في مثل هكذا مواقف، حين يتعرض فيها أحدنا إلى ضغوط الترهيب والإكراه وسلاطة اللسان لقبول قناعات هؤلاء وآرائهم، أنه يتظاهر بالصمت، أو بالقبول السطحي والظاهري لكن من دون اقتناع. فعندما ”يحدثك أحدهم، فتحدق في عينه، أو في وجهه، متظاهراً بأنك تتابع كل كلمة يقولها باهتمام شديد، ولكن ما تفعله حقاً ليس سوى سماع صوته، وربما مراقبة تعبيرات وجهه دون أن تدقق فيما يقول، إما لأنك مشغول بما هو أهم، وعلى جوارحك يستحوذ أمر آخر، وإما ليقينك بأن ما يقوله غير ذي أهمية“. [1] 

هؤلاء الذين يمارسون لغو الحديث وسلطة الكلام وعنف الكلمة، لكي يظلوا مسيطرين على جو الحديث، ويفرضون عليك أن تستمع إليهم، من دون أن يعطونك الفرصة والمجال للحديث، والكلام، والتعبير عن وجهة نظرك، أو محاججتهم فيما يقولون، ومبادلتهم الرأي، هم في الحقيقة مخطئون عندما يعتقدون أنهم بهكذا أسلوب يُوصلون فكرتهم ووجهة نظرهم، لأنهم في الأخير لن يجدوا من يصغي إليهم.

أما في حال سادت أجواء الحديث والكلام مشاعر الود والألفة والمحبة، سيجد المتحاورون من يستمع إلى كلامهم، بل من يصغي لهم، ليس فقط بآذانهم، وإنما بقلوبهم أيضاً، لأن ”هناك نمط من الناس أُعطيت لهم ملكة، أو فن الإصغاء للآخرين. فمع هؤلاء تشعر بنوع من السكينة والآلفة والهدوء. ربما لقدرتهم على التقاط ما تفكر فيه أو تريد قوله، حتى لو خانتك لحظتها الكلمات المناسبة للتعبير عما يجول في خاطرك وأنت تعرض فكرة أو تشرحها. هؤلاء الناس بالمناسبة أقرب للتأمل. والشخص المتأمل هو عادة مرهف الحس، وقادر على التقاط ما هو جوهري حتى في الفكرة التي تبدو في ظاهرها عادية. أما الذين يتزاحمون على سلطة الكلام فهم على النقيض أميل إلى سرعة الأحكام، والقطعية في تقييم الأمور، لأن المسافة بين التفكير والكلام عندهم مسافة قصيرة. ويبدو أنه كلما قصرت المسافة كلما ازدادت احتمالات الخطأ“. [2] 

وبهذا المعنى فإن الأسلوب الحواري المحبب والرصين وفق قانون العليّة ونظام الأسباب والمسببات، يحدث هزة في جدار العقول الخامدة والقلوب المقفلة، وهو ما من شأنه أن يدفع أصحاب القلوب الواعية إلى إعادة النظر في قناعاتهم، وتقييم كل ما علق في أذهانهم من أفكار متراكمة، أو استنتاجات لا تنسجم مع ما تقتضيه قواعد النظر والبرهان.

إن لب الفكرة التي نود تسليط الضوء عليها في هذه المقاربة هي إننا بحاجة إلى أن نتلطف في لغة الكلام، ونُعوِّد ألسنتنا على الألفاظ الجميلة، والتعبير الحسن، والكلمة الرقيقة، فالكلمة الطيبة كما يقال صدقة، وأن نصغي إلى بعضنا البعض بحميمية، ونشجع جو التعاطف والتفاهم والتَّفهُّم في حواراتنا، وأن نخلق البيئة التي تشجع على الصراحة المطلقة والرأي الصريح.

غير أن كل ذلك يصعب تحقيقه في بيئة يسودها التوتر والتشنج والتعصب، أو في جو يسوده ارتفاع نبرة الصوت العالي، واستعمال الكلمات القاسية الغير مسؤولة، والتي تُشعر الآخر بوجود الموانع التي تقف أمام حريته في الكلام، والتعبير عن رأيه بصراحة، مما يضطره إلى إضمار قناعاته، وعدم الإعلان عن رأيه، والاختباء خلف الحواجز خوفاً من قمع الآخرين له.

ويتجلى مما سبق أهمية خلق البيئة المناسبة التي ينطلق في جوها الحوار الهادئ، الهادف والرصين، والقائم على صفاء النفوس، والثقة المتبادلة، كي لا تؤدي أجواء التوتر والتشنج إلى خلق العقد تجاه بعض، وبالتَّالي إلى تكريس حالات الخوف والريبة والوجل والنفور والقطيعة، ”فالحوار يمثل الوسيلة التي بها نفهم الآخر وأن يفهمنا الآخرون، وأن نقنع الآخرين أو يقنعوننا. وعندما يصبح الحوار عنفاً من خلال التعنيف في لغة الحوار، حيث لا يكون العنف أسلوباً واقعياً للمسألة، فإن ذلك يعني أنك تخلق عقدة في نفس الإنسان الآخر، وإذا هو مارس العنف ضدك كرد فعل لعنفك، فإنه يخلق عقدة في داخل فكرك ضده“. [3] 

وهكذا عندما تسود لغة الترهيب والتخويف والشتيمة، أو مفردات اللعن وكلمات السباب في الخطابات والحوارات، فإن ذلك لا يشير إلى قصور في النواحي الأدبية والسلوكية فقط، وإنما هو تعبير يؤكد على ضيق الصدور، وعدم القدرة على تقبل الآخر والمختلف، مما يؤدي إلى التخاصم والقطيعة، وتراكم المشكلات والأزمات والتوترات التي تضعف البنيان المرصوص.

 

[1]  احتلال «الأذن». حسن مدن. جريدة الأيام البحرينية.

[2]  احتلال «الأذن». حسن مدن. جريدة الأيام البحرينية.

[3]  من كلام للسيد محمد حسين فضل الله.