أكفاء مبصرون بطموحهم
الحياة ملؤها الأمل تشحن طاقتها من الطموح الذي لا يخلو من العقبات المؤرقة تارة والمبكية تارة أخرى وتتوجه تمتمات الحمد والثناء على بعض الابتلاءات التي وإن بدت في نظر العامة بالمحنة إلا أنها تشكل لمن يبتلون بها بالمنحة التي سيخرجون حتما من بعد الخلاص منها بتجربة فريدة يتعلمون منها الكثير من الدروس.
فالعالم مليء بتلك الابتلاءات إلا ان واحدة منها كفقدان نعمة البصر تكون ابتلاء ثقيل يراد التعامل معه بطريقة خاصة فلطالما تساءل الكثيرون كيف يعش فاقدو البصر الحياة الطبيعية التي يعيشها المبصرون، فالمنزل والشارع والعمل أماكن ترتاد باستمرار ولمن لا يرى في طريقه إلا الظلام فكيف له الاستمرار في العيش الكريم والمريح والتعامل تلك الأماكن ومن فيها؟
رأيت في يوم من الأيام صورة تركت في ذاكرتي علامات استفهام وعلامات اعجاب في ذات الوقت حين انتهت الطالبات من مادة الاختبار في ذلك اليوم ورأيت طالبة وهي تنتظر سيارتها استعدادا للخروج تتلمس في كتاب أبيض وضعته بين يديها ورأسها مرفوع الى الأعلى، توقفت لأرى ما هذا الكتاب الذي يخلو من الأحرف وحينها أدركت أنه كتب بلغة برايل وأن الطالبة كفيفة، وتذكرت بأنه يوجد لدينا في المدرسة فصل لتعليم الكفيفات والكبيرات معا.
الطموح والعزيمة والإرادة والإصرار كلها كلمات تراقصت في مخيلتي وقادتني الى الاعجاب بهذا الطالبة التي تحارب هي وزميلاتها الكفيفات ليتجاوزن حد الظلام وينطلقن الى الحياة بنور العلم.
ومن ثم درت ببصري كجولة تصويرية حول المكان ضاقت معها حد ابتسامتي وتبدلت فيها أغلب مشاعري فكيف لتلك الكفيفات العيش معنا هنا في مكان لا أرى فيه شيء مختلف عما نستخدمه في كل يوم نحن المبصرون،
إذ لم أرى شيئا مختلفا لا ممرات خاصة ولا سلالم أو مصاعد معينة بل حتى الفصل الذي جمعهن لم أرى فيه ما هو مختلف عن فصول الطالبات الأخريات؟
الأمر الذي دفعني الى البحث مع معلماتهن الخاصة بهن عن عالم بعيد كل العبد عنا، عالم لا يعرف عنه الكثيرون الا من يعيشن معهم أو تربطهم بهم صلة كالقرابة أو الدراسة وغيرها.
وبعد أن تحدثت معهن عن عدة مواضيع كان من بينها طريقة التدريس والعقبات التي تواجههن خصوصا بعد أن قررت الوزارة بعد 30 سنة من المطالبات بضم الطالبات الكفيفات ودمجهن بالطالبات المبصرات وفتح فصول دمج في بعض المدارس في المنطقة السلاح ذو الحدين فمن جهة يدمجهم مع الآخرين ويعزز من قدراتهن الجسدية والنفسية ومن جهة أخرى زج بهن في عقبات عدم التهيئة لا في المكان ولافي الوسائل الخاصة بمثل هذه الحالات إلا ما ندر وقل.
وعرفت أنهن يدرسن ثلاث سنوات ابتدائي وثلاث سنوات متوسط وثلاث سنوات ثانوي، مشوار دراسي أجده طويل على من يعيش العتمة إلا أنه لابد أنه مشوار لذيذ بكل أشواكه تشعر به تلك الطالبات اللاتي استمرت في الدراسة مكافحة ومصرة على أن تحصل على الشهادة الثانوية وسيلتهن الوحيدة في ابصار حروف العلم طابعة خاصة تدعى «اندكس» تحول أحرف المبصرين الى نقاط تلمس بالأيدي رحم الله العالم «بريل» حين ابتكرها وخفف معاناة هؤلاء بالقراءة والاطلاع على الصور والأشكال والتعرف عليها ولو بطريقة وإن كانت ليست بنفس طريقتها والوانها كما نراها نحن الا انها لا شك ذات طابع خاص لديهن فالعالم الذي يعرفه الكفيف بلا شك هو عالم لا نعرفه نحن مما يجعلنا نؤمن بأن الحياة ليست واحدة وترى من منظار واحد وبأن الجمال ليس في الألوان والأماكن الجميلة بل هو شيء نسبي نستشعر به في دواخلنا ونتذوقه بأحاسيسنا.
وبأن الشوارع ممكن أن يسير فيها فاقدوا البصر بكل سلاسة متى ما استطاعوا بالبصيرة إدراك مخاطرها وبإمكانهم العمل والدراسة والحياة بكل أريحية فقط قليل من الاهتمام وقليل من الشعور بوجودهم واحتوائهم فما أخذ الله منهم هذه النعمة الا وأعطاهم مالم يعطيه البصيرون من مواهب وإبداعات وفهم وذكاء، فقبل أيام سمعنا عن رقية عجاج فتاة سعودية مبتعثه كفيفة حصلت على الماجستير في الموارد البشرية من جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة وتم قبولها في مرحلة الدكتوراه بجدارة. وهي أول سعودية تحصل على جائزة مجلس الشباب العربي للتنمية. وقد حصلت على الترتيب الأول في مدرستي تلك الطالبة التي رأيتها ذلك اليوم تتلمس أحرف الكتاب متفوقة على زميلاتها الطالبات المبصرات في نفس الفصل والمرحلة الدراسية.