آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

الكلمة بين منطق القوة وقوة المنطق

ابراهيم الزاكي

من الطبيعي أن يختلف الناس في آراءهم، وأن تتباين توجهاتهم، وهو أمر من طبيعة البشر ما داموا يعيشون على وجه هذه البسيطة. إلا أن ما يؤسف له عند الاختلاف في وجهات النظر التوسل بالكلمات العنفية وكيل التهم الباطلة بحقِّ كلِّ مَن يخالفهم الرأي، والتهجم عليه بالفاحش من القول، والعنيف من الألفاظ، وشتمه وذمه وإهانته بما لا يليق من العبارات، في محاولة لتسفيهه وتحطيمه وإلغائه وإقصائه، والنيل من شخصه، بعيداً كل البعد عن الأساليب اللينة والرفيقة في التخاطب والحوار، ومن دون احترام للرأي والرأي الآخر.

إن هؤلاء الذين هكذا شاكلتهم في انتهاج اللغة العنفية، واستعمال الكلمات الحادة والجارحة والمهينة في التعبير والتخاطب والحوار، يفتقدون المنطق السليم، والرأي السديد، والتفكير الواعي، ولا يجيدون إلا الصراخ والشتم ورفع الصوت عالياً كسبيل للتغطية على قصورهم وعجزهم، وذلك من أجل سد النقص في قوة منطقهم، كونهم عاجزون عن امتلاك المنطق السديد، والحجة القوية في إقناع الآخرين بوجهة نظرهم.

وبعبارة أشد وضوحاً هؤلاء أُسراء لغرائزهم الذاتية، وانفعالاتهم العاطفية، ويركنون إلى تأجيج المشاعر، وإثارة التوتر، لضمان ولاء مريديهم ومحازبيهم وأنصارهم، مهما كان الثمن، وفداحة الأضرار والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن هكذا منطق عنيف ومتوتر، لينتهي الأمر في الغالب إلى عراك ومشادات، تنزلق فيها الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.

أما أولئك الذين يملكون القدرة على عرض أفكارهم بشكل عقلاني، واستناداً على قوة المنطق، ومهارات الإقناع، المدعمة بالأدلة والبراهين العقلية، والأسلوب التواصلي الرفيق واللين، فليسوا بحاجة إلى رفع الصوت عالياً، وإرهاب خصومهم ومنافسيهم بالصراخ، لأنهم يملكون المنطق السليم، والرأي السديد، والتفكير الواعي في التحدث، وفي الحديث، وفي التعبير عن آرائهم وقناعاتهم بالطرق السَليمة والسِلمِيَّة والحضارية، من دون أن تكون عندهم أي رغبة في إفحام أو إرغام الآخرين وإكراههم على القبول بآرائهم، أو إجبارهم على الاقتناع بما لم يكونوا مقتنعين به، أو فرضه عليهم بالقوة.

وزيادة على ذلك هؤلاء لا يفكرون في الانتقام من خصومهم عندما يختلفون معهم، ورد الصاع صاعين لهم، أو الفتك بهم، وتسديد الضربة القاضية لهم، كي تبقى كلمتهم، رغماً عن الخصوم أو المنافسين، هي المسموعة من دون مناقشة، بل على العكس والنقيض من ذلك، فهم يقولون آرائهم وما يعتقدون به، من دون تهجم أو تجريح، ويتركون للآخرين حرية القبول والاقتناع، ويفسحون لهم المجال كي يعبروا عن آراءهم، ويقولوا ما يرون أنه يمثل قناعتهم، لأن الحكم في النهاية هو لقوة المنطق، لا لمنطق القوة.

إن استخدام منطق القوة في الإقناع لهو علامة إخفاق ودليل فشل، لأن الاقتناع هو نتاج حالة عقلانية منطقية، وليس سلوكاً فوضوياً غرائزيا جسدياً. فالذي يقتنع بفكرة ورأي عن طريق الحوار الهادئ، والمنطق السليم، وقوة الحجة، والدليل القاطع، تترسخ لديه الفكرة، وتتحول إلى قناعة ثابتة ودائمة مع مرور الوقت والزمن، لأن العقول تصغي لكل جديد يطرق سمعها، لتأخذ منه الأحسن والأفضل، ولتختار خلاصة الأفكار بعد جلسة حوارية تجريدية، يفسح فيها المجال للعقل أن يشق طريقه نحو الاقتناع، بعيداً عما هو مسبق من أفكار وقناعات، ليكون الاستنتاج في الأخير قائم على أساس القناعة المعززة بالمنطق والدليل.

أما ذاك الذي يُجبر على تبني رأي أو فكرة أو قناعة بفعل وضغط منطق القوة، وبوسائل عنفيه، وبأساليب الردع والكبت والإكراه، فإن ثبات هذه القناعة ورسوخها وتجدرها في النفس والعقل سيكون موضع شك، وسيظل أثرها ومفعولها مؤقت، لا تلبث أن تنتفي وتزول آثارها مع أول هبة ريح، وانتهاء مفعول القوة الضاغطة، وزوال المعوقات المفروضة والكابتة، حيث تعود الأمور بعدها إلى سيرتها الأولى، وكأن شيئاً لم يكن، ولم يتغير.