كي لا نزرع الضغائن في النفوس
حين نعتب أو نلوم تلك اللغة الفظة والقاسية والجارحة في الحديث والتخاطب، فإن ذلك لا يعني بكل تأكيد تكميم أفواه الناس ومنعها من الكلام، أو أن يقف الإنسان أمام الأخطاء والانحرافات موقف المتفرج الصامت عن الكلام وإبداء الرأي، بل على العكس من ذلك، فإن واجبه يحتم عليه أخذ زمام المبادرة، والتصدي بكل حزم وجرأة لما هو سلبي ومنحرف عن جادة الصواب.
لكن الجرأة والحزم والصلابة هنا، لا تعني الخروج على ما هو متوارث من تقاليد وعادات وطباع وقيم أخلاقية حميدة، والاستقواء بلغة الشتيمة، والتراشق بالكلمات النابية، والسباب والتسفيه والتوبيخ والإهانة، أو استباحة كل ما هو محظور من كلمات وتعابير مؤذية ومهينة، لا تزيد إلا في تعميق الشرخ والانشقاق بين الناس، ولا تؤدي إلا إلى الخصام والقطيعة، أو الفتنه في بعض الأحيان.
إن ممارسة النقد، والسعي إلى كشف الأخطاء والانحرافات في أي مجتمع، لهو أمر واجب، وضرورة إنسانية، من أجل حياة المجتمع واستقامة أفراده. وهو حق طبيعي لكل الناس، وغير قابل للمساومة والتحريف، إلا أن المهم أن يكون هذا النقد موضوعياً، وبعيداً عن الشخصنة، والنزاعات والخلافات العصبوية، كما يعبر عن ذلك السيد فضل الله بقوله: ”إنّنا في الوقت الّذي لا نرفض منطق النّقد لكافّة القيادات الدّينيّة وغيرها، إلا أنّنا نريد لأيّ نقد أن ينطلق بروح علميّة موضوعيّة خالية من العصبية وعقلية الثأر، فلا تقديس لمن ليس بمقدّس من جهة، ولا إسراف في النقد يخرج فيه مطلقه عن الآداب الإٍسلاميّة العليا، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾، فكيف يكون الحال بالنّسبة إلى أهل القرآن؟“. [1]
وعلى هذا الأساس فإن من واجب الناقد والمتكلم عند الحديث والتخاطب أن يختار ألفاظه بعناية، وينتقي كلماته المعبرة والهادفة بدقه، بعيداً عن زلاّت اللسان وهفواته، والتي لا تؤدي إلا إلى زرع الضغائن وإيغار النفوس. فالكلمة الطيبة لها مفعولها عندما تقال، ويكون وقعها على النفس أفضل من أي كلمة نزقه متوترة تخرج من شخص متوتر يدفعه غضبه وانفعالاته على الخروج عن الموقف الحكيم والمتوازن.
إن الكلام والتخاطب والحوار بين الناس له انعكاساته الاجتماعية والحياتية والسياسية، ومؤشر إلى قوة ومتانة الترابط والاندماج والتماسك الاجتماعي، أو العكس. لذلك فإن ما يقال وما لا يقال من كلام في التخاطب والحديث، له وقعه وتأثيره على المتحاورين ومن يمثلون من جماعات ومريدين. فإذا كانت الكلمة المنطوقة خارجه من القلب طيبة وحميمية، فإن مكانها مباشرة إلى القلب، وتساهم في تقريب الناس إلى بعضهم البعض.
غير أن الصراحة تقتضي القول بأن لغة التخاطب في بعض الأحيان، تتجاوز المعقول، وتقفز على الحد المقبول، فنجد إسفافاً في لغة الحوار، وخروجاً عن القيم والتقاليد المتعارف عليها، وخروجاً عن الفضيلة والخُلق القويم، تنزلق بعدها الأمور في مسارات لا تُحمد عقباها. فكم هم هؤلاء الذين إذا تخاصموا واختلفوا، تجدهم يتساببون، ويتلاعنون، ويتبادلون أخس الشتائم، وأخشن الكلمات، ويتجاوزن في الكلام المحظورات دون حرمة لأي شيء؟
وحريٌ التأكيد هنا على أن للكلام المنطوق تأثيره وأهميته في تماسك المجتمع وترابطه. ”فالكلام يتوقف عليه كثير من عوامل تماسك المجتمع وترابطه، وبتالي فلا ينبغي أن يطلق الكلام على عواهنه دون إدراك لوقعه وتأثيره على من سيقع على مسامعه، ويجب أن تخرج الكلمة من القلب، مروراً بالعقل، قبل أن ينطق بها اللسان، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان بين الناس يتجاوز هذا الإطار، فنجد تدنِّياً ملحوظاً في لغة الحوار، وخروجاً غير مبرر عن كثير من القيم والتقاليد والآداب العامة، ناهيك طبعاً عن القيم الدينية التي تحثُّنا دائماً على التزام الفضيلة والخلق القويم. يقول تعالى:﴾ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴿“. [2]
وفي موازاة ذلك يشير الكاتب البحريني حسن مدن، إلى ”أن عنف الكلمة لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما، وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر الأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كحد السكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من النفاذ بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه، وأن تكون مؤذية بحيث أن المرء بحاجة لوقت ولجهد كي يحتوي أثرها المدمر في النفس“. [3]
كم هو مؤسف حقاً أن يحدث هذا التدني في لغة الحوار والتخاطب، ليس فقط بين الأبعدين والمختلفين الذين لا تربطهم علاقة وتواصل، وإنما يحدث أيضاً بين الأقربين من الأهل والأقرباء والأصدقاء والزملاء والأزواج، عندما تأخذهم مجريات الحديث وتداعي الكلام إلى تعقيد البسيط، وتكبير الصغير، لتتحول بعدها الأشياء الصغيرة إلى مشكلات كبيرة تستعصي على الحل، خاصة بعد أن يكون الكلام العنيف والجارح قد نفذ إلى عمق الروح، ونال من النفس الكثير.