ثقافة النرجسية
يمارس البعض أقصى درجات النرجسية، في التعاطي مع الذات، والتعامل مع الاخر، فهو ينطلق من مبدأ، ”مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ“، وبالتالي فان طريقته تمثل النهج القويم، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها، مما يدفعه لاتخاذ مواقف متشددة، تجاه مبادرات وأفكار الاخر، باعتبارها ”كفر“ بوان، الامر الذي يمهد الطريق امام الخصام البائن، وغير القابل للتفاوض.
النرجسية مرتبطة بطريقة التفكير، واحيانا نابعة من حالة التضخم، غير المستندة لحقائق الواقع، والتاريخ، اذ يتحرك ”النرجسيون“ وفقا لقناعات نسجت، في عالم منعزل عن الواقع المعاش، بحيث ينعكس على صورة رفض الجميع، باستثناء المحيط القريب من واقعه النرجسي، الامر الذي يحدث انفصالا واضحا في مختلف الاصعدة، سواء الفكرية او التعايشية، مما يقود في نهاية المطاف لانفجار داخلي، يصعب السيطرة عليه، نظرا لصعوبة التعرف على الطريقة، التي يتحرك بواسطة النرجسيون، في البيئة الاجتماعية.
التعايش مع الظاهرة النرجسية، سواء كانت على الصعيد الفردي، او الثقافي، ليست سهلة على الاطلاق، نظرا لوجود طبقة سميكة من الحواجز المادية والمعنوية، التي تحول دون ازالة تلك الطبقة بسهولة، لاسيما وان النرجسية تتحرك وفق معتقدات غير معروفة، ويصعب سبر أغوارها بالطرق التقليدية، فالحالة النفسية المسيطرة على الشريحة النرجسية، تشكل - احيانا كثيرة - المحرك الأساس، في اتخاذ المواقف، مما يعني ان معالجة الوضع النفسي يتطلب جهودا كبيرة، وبالتالي فان المنطق العقلاني، يبقى معزولا في مختلف المواقف، فالعقل يكون في اجازة دائمة، او مؤقتة، تبعا لنوعية الشريحة النرجسية، التي يتعامل معها.
التحرك وفق مبدأ النرجسية، يحدث خللا كبيرا في العلاقات الاجتماعية، ويصيب الحركة الفكرية، بسقم ومرض عضال، واحيانا بشلل دائم، نظرا لآلية التعاطي القائمة على الجفاء، وقطع سبل التواصل، واستدامة الوشائج الانسانية، وانعدام التلاقح الفكري، الامر الذي يولد حالة من العقم الثقافي، مما ينعكس على الحركة البنيوية، والطبيعية للمسيرة البشرية، بمعنى اخر، فان النرجسية ظاهرة شاذة وطارئة، دعاتها أطراف تعاني من إعتلالات نفسية، واحيانا فكرية، مما يدفعها للجنوح باتجاه تضخيم ”الانا“، على حساب مبدأ التعاون، والاستعانة بتجارب الاخر.
الدعوة لاتخاذ موقف صارم تجاه النرجسية، ليست مرتبطة بالاستهانة بقدرات الاخر، او الاستخفاف بالنتاج الفكري، بقدر ما تحاول وضع الامور في النصاب الصحيح، فالايغال حتى النخاع في تقديس الذات، على حساب الاخر، لا يولد سوى الضياع الاجتماعي، جراء محاولة النرجسي فرض ارادته على العقل الجمعي، انطلاقا من قناعات قابلة للصواب والخطأ، خصوصا وان القناعات الفكرية بمثابة مجموعة قيم، جاءت نتيجة تجارب، او حصيلة قراءة للواقع، مما يعني ان العقل البشري قادر، على تقبل تلك القراءات او رفضها، انطلاقا من قدرته على إيجاد الحلول المناسبة، للمطبات الفكرية، او تجاوز عراقيل العلاقات الاجتماعية، فيما النرجسية تحاول وضع العصا، في عجلة التفكير الجمعي، مما يعرض العلاقات الاجتماعية للعطب، ويحول دون استمرارية التفكير البشري، باتجاه خلق واقع اكثر رحابة وقدرة، على تحقيق النهوض الاجتماعي السليم، وتشكيل مشروع ثقافي قادر على وضع النقاط على الحروف، في أزمات الازمات الفكرية، التي تواجه البشرية.