المفكر الميلاد: خطاب الصحوة مارس الوصاية الفكرية والدينية على الناس
للأستاذ زكي الميلاد المفكر والباحث في الفكر الإسلامي وجوه فكرية متعددة وسمت انتاجه الغزير والمتنوع، حيث شكلت كتاباته وأطروحاته الغنية في الفكر الإسلامي والدراسات الحضارية وقضايا الهم الوطني والديني مسيرة عطاء لا ينقطع. وكان لحضوره المتميز والمتصل على أكثر من صعيد فكري، من التجديد إلى الحداثة، إلى التواصل، إلى التنوير في الساحة الوطنية السعودية والعربية والإسلامية، الأثر الأكبر في التفاعل الحيوي مع أطروحاته درسا وتحليلا، فيما ارتكزت رؤيته الفكرية / الإسلامية على ضرورة التواصل كقيمة إيجابية في العلاقات بين الذات والعالم، والانهمام بالتجديد كمجال ضروري لتجاوز الانسدادات النظرية للأيديولوجيا، سواء في تعبيرها عن أزمة العقل الإسلامي المعاصر أو في تعطيلها لعلاقة المسلمين مع العالم المعاصر. حول كل تلك القضايا الغنية والمتعددة كان للحوار هذا اللقاء مع الباحث والمفكر الأستاذ زكي الميلاد.
فقد ظل خطاب الصحوة يتملكه الشعور بالاستعلاء النفسي، ومارس نوعا من الوصاية الفكرية والدينية على الناس، وظل مسكونا بهاجس أدب الخلاف والنزاع، ومتمسكا بذهنية القطيعة والانغلاق، وقدم خطابا تقليديا ينتمي إلى علم الكلام القديم الذي بات عتيقا وجامدا ولم يعد قادرا على مواكبة تطورات العصر، وتجددات الحياة، وتبدلات الزمن، وتراكمات المعرفة.
كما لم يعد هذا الخطاب قادرا على كسب ثقة الأجيال الجديدة، وغير قادر كذلك على الانخراط في العالم، والتواصل مع الثقافات والحضارات الإنسانية الأخرى، والتعايش مع الأمم والمجتمعات المتعددة والمختلفة التي نتشارك معها الحياة في كوكب الأرض.
كما أن شرط هذا السؤال أن يكون سؤالنا نحن الذي يخصنا ويعبر عن حاجتنا، ويستجيب لتطلعاتنا، ويتفاعل مع حاضرنا، ويتصل مستقبلنا، لا أن يكون سؤال غيرنا من الأمم والمجتمعات الأخرى الوافد علينا من الخارج، أو الذي نتعرف عليه من طريقهم وبواسطتهم فلا يكون فاعلا ومؤثرا في محيطنا، وبهذا المعنى يقتضي سؤال التجديد أن يصبح سؤالا فعالا.
ونحن بحاجة إلى سؤال التجديد خاصة في المجال الديني على مستوى الخطاب، ليكون خطابا متسما بخاصية التواصل في مواجهة القطيعة، وبخاصية الانفتاح في مواجهة الانغلاق، وبخاصية الاعتدال في مواجهة التشدد، وهكذا بخاصية التسامح في مواجهة الكراهية.
هذا هو السبيل لتجاوز ما يمكن تسميته بصدام الطوائف الذي لا يحدث إلا بتأثير وضعيات الانغلاق والقطيعة والتباعد، وقد وصلنا إلى وضع يفرض علينا وبشدة ارتفاع صوت الحكماء والإصغاء لهذا الصوت والالتفات إليه، والاستبشار به، ومثل هذا الصوت الحكيم موجود في ساحة جميع الطوائف والمذاهب.
ونحن اليوم بحاجة لاستعادة مفهوم المواطنة، وتحويله إلى مفهوم مركزي ومرجعي في خطابنا الثقافي والديني، ليكون مفهوما مشعا وخلاقا وثريا بحقله الدلالي، بعد أن ظل مفهوما غائبا أو مغيبا ومتنازعا عليه في الخطاب الديني التقليدي.
وفكرة الحوار هي في الأساس فكرة تواصلية، وتظهر فاعليتها في التواصل وفي الفعل التواصلي، وهي تعني كما تعني فكرة التواصل العبور من فلسفة الذات إلى فلسفة الآخر، فلا بد من الوصول إلى الآخر حتى يتحقق الحوار، بمعنى لا يكفى الدعوة إلى الحوار ولا يتحقق الحوار بهذه الدعوة الحسنة، وإنما لا بد من الوصول إلى الآخر ودفعه إلى التواصل، وليس من السهل تحقيق هذه الرغبة أو هذه المهمة، لكن ليس من الصعب كذلك النهوض بها، لكن الحوار والحوار الفعال تحديدا لا يتحقق بدونها.
وبهذا المعنى فإن فكرة التواصل تقدم خبرة معرفية وفلسفية ونقدية مهمة لا غنى عنها لتطوير فكرة الحوار، وبهذه الطريقة نخرج الحوار من الإصابة بوضعية الرتابة أو وضعية الجمود أو وضعية الانسداد، ولن يحصل هذا الأمر إلا بتدعيم فكرة الحوار بأسس معرفية وفلسفية ونقدية.
وفي مجالنا الوطني يمكن القول إن فكرة الحوار خطت خطوات متقدمة مع تجربة مركز الحوار الوطني، الذي بات يمثل بيت الخبرة السعودي والمرجع الوطني المتخصص بفكرة الحوار وبكل ما يتصل بها من معارف وتجارب وخبرات، والمفارقات واضحة في صورة هذه الفكرة ووضعيتها ما قبل مركز الحوار وما بعده.
علما أن طبيعة المجتمع السعودي وبنيته وتركيبته البشرية والاجتماعية المتعددة والمتنوعة، تلح بشدة إلى طرح فكرة المواطنة، وإثارة الحديث والنقاش حول هذه الفكرة وبلا توقف، فكل الشروط والأرضيات والسياقات المحفزة لانبعاث هذه الفكرة موجودة، وهي قريبة من الأذهان، بل ونلمسها بطريقة حسية، مع ذلك ظلت هذه الفكرة ولفترة طويلة من الزمن، بعيدة عن المجال التداولي الفكري.
وفكرة المواطنة في كل مجتمع أنها تلامس المداخل التي تتصل بها، ففي مجتمعنا السعودي تلامس المواطنة المداخل الثلاثة المذكورة، المدخل القبلي بحكم وجود القبيلة الممتدة والمؤثرة في داخل بنية المجتمع السعودي، والمدخل المناطقي بحكم الجغرافيا الطبيعية والبشرية الواسعة والكبيرة، والمدخل المذهبي بحكم وجود أصحاب المذاهب الإسلامية المتعددة.
والحكمة من فكرة المواطنة، أنها تكوّن شعورا جمعيا موحدا عند جميع الأفراد داخل الوطن الواحد على تعدد قبائلهم ومناطقهم ومذاهبهم، شعورا يتخذ من الوطن إطارا وأساسا جامعا لهم، وبشكل يصبح الانتماء إلى الوطن هو الانتماء الرئيسي الذي يتقدم ويتغلب على جميع الانتماء الفرعية الأخرى.
ومن الضروري أن تشعر الهويات الفرعية بالأمان والحماية من الهوية الجامعة، وبهذه الطريقة تسهم هذه الهويات الفرعية بتدعيم الهوية الجامعة وترسيخها وتمكينها، الوضع الذي يرتفع فيه الخلل، وتزال مسببات النزاع والصدام التي تنشأ عادة من السياسات الإلغائية والإقصائية.
والمسلمون اليوم يظهرون أمام العالم وكأن لا وزن لهم ولا تأثير ولا اعتبار، مع ما لديهم من تراث حضاري عظيم، ومع ما يمتلكونه من ثروات هائلة طبيعية وزراعية ومعدنية، وممرات مائية حيوية تربط بين أجزاء العالم وقاراته المختلفة، وغير ذلك من ثروات نعرفها نحن ويعرفها العالم، لكننا الأقل استفادة منها وهذه هي جوهر المفارقة الحضارية.
وبهذا المعنى فإن التراث يقبل الزيادة والإضافة، ويقبل النقد والنقض، وحتى الطرح والإسقاط، فلا نقبله بكليته وعموميته، وبدون فحص ونقاش، ولا نرفضه بكليته وعموميته كذلك بدون فحص ونقاش.
والحاجة إلى الفحص والنقاش لكي لا يكون الأخذ والرفض محكوما بمعايير الرغبات والعواطف، أو باقي المؤثرات والميولات الأخرى، وإنما ليكون الفحص والنقاش مستندا إلى أسس علمية ومنهجية تنظم العلاقة مع التراث.
وهذا يعني أن التراث ليست له قداسة النص قرآنا وسنة، هذه هي الإشكالية الملتبسة التي أعاقت طرائق التعامل مع التراث، وجعلت من التراث يتحول إلى سلطة فكرية وثقافية ودينية يكون من الصعوبة التعامل معه.
ونحن بحاجة لبلورة منظور معرفي ومنهجي على ضوئه تتحدد المقاصد والغايات من النظر إلى التراث، وهكذا الحاجات المعرفية والمنهجية التي ترتبط به، في زمنه الماضي، وبعلاقته بحياتنا المعاصرة، وبنظرتنا إلى المستقبل. وهذا هو المدخل السليم في التعامل مع التراث، لأن حقيقة المشكلة ليست في التراث، وإنما في طريقة فهمنا للتراث، وفي طريقة تعاملنا معه.
ولبلورة مثل هذا المنظور المعرفي لا بد من الاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي لا ينبغي أن ننكر لها خبراتها وتجاربها وتطبيقاتها، ومنجزاتها ومكتسباتها المعرفية، وأدواتها وطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية، بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع التراث منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية.
وكان من الضروري الاقتراب من هذه النظرية المقاصدية وتفعيلها والتواصل معها، لكونها تمثل مدخلا حيويا في طريقة التعاطي مع تحولات العصر، وتغيرات الزمن، وتجددات الحياة.
وعلى ضوء هذه النظرية يمكن التفريق بين روح الحداثة وواقع الحداثة، التفريق الذي استند إليه المفكر المغربي الدكتور طه عبدالرحمن في التأسيس لحداثة إسلامية كما شرحها في كتابه اللامع والموسوم بعنوان «روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية».
إلى جانب هذا الطرح، كانت لي نظرية أخرى تتحدد في اعتبار أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك لكون أن الحداثة تتكون من ثلاثة عناصر أساسية وثابتة، هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي من مكونات مفهوم الاجتهاد بتفصيل لا يتسع له المقام هنا.
هذه الثورة غيرت منظورات الناس إلى العالم، وجعلت العالم حاضرا في حياة الناس وحولته إلى شيء محسوس يدركونه ويتعاملون معه بصورة يومية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي العابرة بين الأمم والمجتمعات، وبطريقة لم تحصل في جميع الأزمنة السابقة بل في التاريخ الإنساني برمته.
والمثير للدهشة أن هذه الثورة الرقمية بأدواتها المختلفة قد حفزت معظم الناس بجميع فئاتهم العمرية على التفاعل والتواصل معها، بما في ذلك الفئة العمرية الصغيرة التي ما زالت في مرحلة ما قبل المدرسة، إذ أصبحت الألواح الإلكترونية أدواتها المفضلة في اللعب وفي تمضية الوقت، الأمر الذي يعني أن هذه الثورة الرقمية لها تأثيرات متعاظمة تفوق وبلا قياس الإعلام القديم.
وقد ظلت هذه القضية موضع اهتمام الغربيين، ونالت قسطا من دراساتهم وأبحاثهم وفي هذا النطاق تحديدا جاءت دراستين لبرنارد لويس المنعوت بعميد دراسات الشرق الأوسط، الدراسة الأولى صدرت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحملت عنوان «أين الخطأ.. التأثير الغربي واستجابة المسلمين»، والدراسة الثانية صدرت بعد تلك الأحداث وجاءت بعنوان «أزمة الإسلام.. حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس».
لكن من منظور آخر نقدي وداخلي، يمكن القول إن تاريخ العالم العربي يمثل تاريخا متتابعا من الفرص الضائعة التي لم نحسن الاستفادة منها، والتعامل السليم معها، فقد مرت علينا الثورة الصناعية في أوروبا مع بداية القرن العشرين، وكانت حدثا كبيرا ومدويا في العالم، ولم نعمل للاستفادة منها. ومرت علينا كل تلك التحولات العلمية والتقنية التي شهدها الغرب واليابان من بعد تلك الثورة الصناعية، ولم تحدث تغيرا حقيقيا في تطوير حياتنا العلمية والتقنية.
وتمر علينا اليوم ثورة المعلومات وما سمي بانفجار المعرفة، والتطورات المذهلة في مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية، ونحن لا نملك إلا أن نظهر الخوف والشك والقلق، وإذا كان من المبرر أن نخاف، إلا أن هذا الموقف بالتأكيد ليس كافيا على الإطلاق، فهو موقف الضعيف الفاقد للثقة بالذات.
وما يثير الدهشة في هذه الظاهرة من جهة الزمان، أنها اشتدت وتصاعدت مع القرن الجديد الحادي والعشرين، الذي كنا نتطلع فيه مع العالم في أن يكون قرنا مختلفا، واعدا بمزيد من النهوض والتقدم، وعلى أمل أن تتحسن فيه أحوالنا، وتتغير أوضاعنا، ونسلك فيه مسلكا يخرجنا من المآزق الصعبة التي وصلنا إليها، ويضعنا على طريق آخر نتلمس فيه فرص النهوض والتقدم، فهو القرن الذي استبقه العالم بالتحضير والاستعداد والاستشراف.
لهذا فإن العالم الإسلامي اليوم بحاجة لأن يطلق من داخله حركة تنوير واسعة وشاملة، تجابه وتحاصر ما تفشى في محيطه وبيئته من ظواهر التطرف والعنف والتكفير، ولكي يتمكن العالم الإسلامي من إطلاق مثل هذه الحركة التنويرية، فإنه بحاجة لأن يتضامن مع ذاته في مجابهة أيديولوجية التطرف والعنف والتكفير.