ملاحظات على مشروعية التقليد
الكثير منا تابع المحاضرة التي ألقاها سماحة السيد منير الخباز «حفظه الله» في جامعة الكوفة عن التقليد والسيرة العقلائية
إلا أن الأخ محمد الشافعي «حفظه الله» سجل ملاحظات على محاضرته وحسب نظري المتواضع لم تكن في محلها ولكي لا أطيل على القارئ سأضع الملاحظات ومن يريد نص ملاحظاته يرسل لي على الخاص وأزوده بها
وهنا نناقش ما وصل إليه من ملاحظات على جناب سماحة السيد «حفظه الله».
الملاحظة الأولى:
لقد فهم الكاتب من محاضرة سماحة السيد: تخريج مسألة ولاية الفقيه على أنّها إنطلاق من البناء العقلائي وسيرتهم في الرجوع إلى قائد لتنظيم أمور حياتهم،
وهذا خاطئ بحسب تشخيصي في فهم المحاضرة، إذ إن «السيد منير» صرّح خلال المحاضرة بأنّ هنالك خلافًا فقهيًّا حول ولاية الفقيه.
وذلك: حين إجابته على الأسئلة الواردة عليه، في حين كانت الفكرة التي استند فيها إلى بناء العقلاء فكرة ضيقة أخص من مسألة ولاية الفقيه وهي مسألة حفظ النظام.
فقد ذكر أن المجتمع العقلائي لديه مفردة لا نقاش فيها وهي مفردة حفظ النظام، والتي تعني ضرورة قيام المجتمع نفسه بالتقيّد بالنظام والقانون الذي يحفظ النفوس والأعراض والأموال، ومن هذا المنطلق - أي منطلق ضرورة حفظ النظام - يفتي الفقيه بلزوم التقيّد بأنظمة المرور والبلديات والتعليم والصحة، وبضرورة الدفاع عن الوطن حين تعرضه لأي غزو غاشم، وبضرورة استناد السلطات الثلاث إلى صندوق الاقتراع، لأن ذلك هو الدخيل في حفظ النظام في عصرنا الحاضر،
فهنالك فرق بين أن نثبت شرعية ولاية الفقيه بالإستناد إلى المنطق العقلائي - وهو ما لم يذكره في المحاضرة.
وبين أن نستند إلى هذه الفكرة الخاصة - وهي فكرة حفظ النظام لدى المجتمع العقلائي -، وننطلق منها إلى فروع يرى الفقيه ضرورة الإفتاء بها اعتمادًا على هذه النظرية، ألا وهي نظرية حفظ النظام.
الملاحظة الثانية:
ذكر الكاتب أنه إذا اعتمدنا في تخريج شرعية التقليد على المبنى العقلائي، فالبحث حينئذ ليس بحثًا تخصصيًا، فلا خصوصية للفقيه أو غيره في ذلك، بل لكل شخص أن يدلي بدلوه في مجال الأخذ والرد والنقاش لهذه الفكرة، وهذه نتيجة خاطئة، إذ الاستدلال بالسيرة العقلائية يتوقف على أن نحرز أمرًا هامًّا ومحوريًّا وهو: إن المشرع - وهو الرسول وأهل بيته - قاموا بإمضاء هذه السيرة العقلائية.
وإحراز إمضاء هذه السيرة العقلائية يحتاج إلى التخصص في مجال البحث الفقهي، إذ لا بد من مراجعة الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن، لنبحث هل أنها تكفي للردع وعدم التأييد للبناء العقلائي أم لا تكفي؟ وهل أنها معارضة في نفسها بنصوص أخرى أم ليست معارضة؟ ومن الواضح أن كلا البحثين يحتاجان إلى التخصص الأصولي والفقهي في فهم هذه النصوص وتنقيح سندها ومتنها وعدم المعارض لها، فمجرد استناد الفقيه إلى السيرة والبناء العقلائي لا يعني خروج هذا المورد عن إطار التخصص الفقهي وكونه بحثًا عامًّا يدخل فيه أي شخص أراد تداول الأخذ والرد والنقاش.
الملاحظة الثالثة:
إن الفقيه حينما يستند في شرعية القضاء إلى المجتمع العقلائي، فهو استناد واضح، لأن المجتمع العقلائي قائم على الرجوع إلى من يكون دوره فض الخصومات ورفع المنازعات وتحرير حق المظلوم من الظالم، ولكن هذا لا ينافي الرجوع إلى مؤسسة تتضمن قضاة التمييز والتدقيق، وإخراج الحكم النهائي.
وقد بحث جملة من الفقهاء هذه النقطة، وأفتوا بأن هذا المنهج هو المشروع، فبإمكان القارئ مراجعة كتاب القضاء لسماحة السيد كاظم الحائري، ومراجعة نظام الجمهورية في إيران القائم على أن القضاء مؤسسة تضم المستويات الثلاثة، فالاستناد إلى المبنى العقلائي في القضاء لا يتنافى مع كون القضاء ذا مستويات ثلاثة، فإننا بالنتيجة نستند في شرعية قضاء الفقيه ونفوذ حكمه إلى المجتمع العقلائي، ولكن مع ضميمة أن يكون الفقهاء القضاة على مستويات ثلاثة، فما ذكره «السيد منير» في الرجوع إلى المجتمع العقلائي في باب القضاء لشرعية قضاء الفقيه ينسجم تمامًا مع كون القضاء مؤسسة تضم المستويات الثلاثة، ويضيف الفقهاء قيدًا ضروريًا وهو أن يكون الفقيه عادلًا لا يجور في حكمه ولا يزيغ لضمان نزاهة قضائه.
الملاحظة الرابعة:
ذكر الكاتب ما نصّه: «أليس من البديهي تفضيل مؤسسات نظامية معنية بالحقوق والدفاع عن الأوطان في احتكار مسائل الدفاع والحرب والسلم بدلاً من المراهنة على فقيه جامع للشرائط قد يكون حكيماً اليوم وقد يكون متهوراً غداً».
والجواب:
نعم، لا إشكال في الرجوع إلى مؤسسات نظامية معنية بذلك تضم من جملة كادرها الفقيه، ولكن بشرط أن تكون هذه المؤسسات المعنية بهذا الجانب تضم فقهاء معروفين بالنزاهة والخبرة الاجتماعية في مجال الحرب والسلم.
وذلك لأن تقرير مصير المجتمع في هذا المجال كما يتوقف على خبرة بالواقع الإقليمي والدولي، فإنه يترتب عليه كذلك قضايا شرعية في مسألة الدماء والأموال والأعراض، وهو ما يقتضي وجود تشريعات يتكفل بها الفقيه المعروف بالخبرة الاجتماعية والنزاهة والعدالة، ولكن إذا لم تحصل هذه المؤسسات النظامية - كما في مجتمع العراق - فمن الطبيعي أن يتعيّن على الفقيه الخبير العادل القيام بذلك، فأي منافاة بين أن نستند إلى المجتمع العقلائي في موضوع حفظ النظام، وبين أن يكون وجود الفقيه شرطًا ضروريًّا في ممارسة وتطبيق هذه الصلاحيات المعنية بالحقوق والدفاع عن الأوطان.
الملاحظة الخامسة:
ذكر الكاتب ما نصّه: «تحليلي الشخصي أن السيد منير يضمر استخدام الروايات وأدواته الأصولية. وإن إحالة القضاء وأمور الولاية للفقيه، ورفض التقاضي للمؤسسات ”العقلائية“ المتطورة بفعل ”التراكم المعرفي“ الإنساني كما يقرر المنطق العقلائي هو تطبيق لمقبولة عمر بن حنظلة دون إشهار ذلك».
ويلاحظ على كلامه أنه يفترض بالكاتب أنه باحث موضوعي، والدخول إلى عالم النوايا وعالم الإضمار مما لا ينسجم مع الباحث الموضوعي، مُضافًا إلى ما ذكرناه من أنه ليس في المحاضرة رفض للتقاضي إلى المؤسسات العقلائية المتطورة، وإنما هو بيان لشرعية قضاء الفقيه، وشرعية قضاء الفقيه لا تعني عدم الرجوع إلى المؤسسات العقلائية، إذا كان بين الفقيه وبين المؤسسات تكامل في الأدوار لأجل تحقيق النظام القضائي العادل.
الملاحظة السادسة:
ذكر الكاتب أن التقليد بصورته الحالية ليس رجوع غير المختص إلى المختص، بل جرى تقعيده ليتحول إلى سلطة، بضم أمور القضاء والولاية والتنظير إلى الأعلمية واشتراط الحياة، وعدم التبعيض في الرجوع إلى الفقيه، وهذا تمرير لمقولات التقليد دفعة واحدة بغطاء عقلائي، والملاحظة على ذلك:
- لم يتعرض «السيد الخباز» لا إلى موضوع التبعيض ولا إلى اشتراط الحياة، ولم يقم بتخريج ذلك على ضوء المنطق العقلائي كما ذكر الكاتب إطلاقًا، وهذا تحميل للمحاضرة بأكثر مما تحتمل.
- هنالك فرق بين التقليد وبين باب القضاء وبين باب الولاية، فلا ينبغي أن نخلط بين هذه المفردات، فتارة نتكلم عن التقليد نفسه وهو رجوع غير المختص إلى المختص، وهذا ما قام عليه البناء العقلائي بشكل واضح، وتارة نتكلم عن فض الخصومات ورفع المنازعات، واحتياجنا في هذا الأمر إلى شخص أو مؤسسة تكون معنية بذلك، وهذا ما قام عليه البناء العقلائي، وذكرنا سابقًا أن الرجوع إلى المؤسسة بمستوياتها القضائية الثلاثة، لا يتنافى مع أن يكون أعضاء المؤسسة فقهاء عدولًا ذوي خبرة، وأما مسألة الولاية فهي محل بحث فقهي، كما تعرض له السيد في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالمحاضرة.
- إن مسألة الأعلميّة قد تعرض لها «السيد منير» وحصرها في فرض الاختلاف، وذكر بشكل صريح أنه لا اشتراط للأعلمية ابتداءً إلا في الموارد التي يختلف فيها الفقهاء، وذكر أنه ما اتفق عليه الفقهاء من الأحكام يمثل 70% من الأحكام، فلا حاجة فيها إلى الرجوع إلى الأعلم منهم، وإنما يُحتاج إلى الرجوع إلى الأعلم في النسبة المتبقية وهي 30%، وهذا مما لا إشكال في كونه أمرًا عقلائيًا واضحًا، فإذا اختلف أهل الخبرة في أي مجال من المجالات، فإن طبع المجتمع البشري هو الاستناد إلى من هو الأخبر، خصوصًا في القضايا المصيرية الخطيرة، ولا شك في أن أحكام الدين من القضايا الخطيرة التي ينبغي الاهتمام بها.
وأما مسألة التبعيض في التقليد فقد ذكرها الفقهاء مفصلة، وذكروا أن الفقهاء إذا كانوا متساوين في العلم فيمكن التبعيض في التقليد، وإذا كانوا متفاوتين بأن يكون أحدهم أعلم في باب العبادات والآخر هو الأعلم في باب المعاملات، فيمكن للمكلف أن يبعض بين الفقهاء، ولم يفتِ الفقهاء بعدم جواز التبعيض مطلقًا، فإذا كان التبعيض مبتنيًا على أساس التفاوت، فهو متطابق تمامًا مع المجتمع العقلائي، فإن المجتمع العقلائي يرجع في كل مجال إلى من هو الأخبر في هذا المجال، فعلم الطب يشمل تخصصات مختلفة، فيُرجع في كل تخصص إلى الطبيب المختص بذلك المجال، وكذلك في الفقه إذا افترضنا أن الفقهاء متفاوتون، فإنه ينبغي حينئذ التبعيض في التقليد، وهذا أمر مذكور في الكتب الفقهية كما هو أمر واضح.
والله الهادي إلى سواء السبيل.