أفق علم الكلام الجديد
مما يلفت النظر تصور بعض طلبة العلوم الدينية بأن كتب العلماء السابقين في علم الكلام - كأوائل المقالات للشيخ المفيد، والذخيرة في علم الكلام للمرتضى، وتمهيد الأصول للشيخ الطوسي، وتجريد العقائد للمحقق الطوسي، وتقريب المعارف لأبي صلاح الحلبي - منظومة معرفية عقدية قادرة على تلبية حاجة إنسان العصر المعرفية لمواجهة الشبهات والإشكاليات المتسارعة والمتلاحقة التي توجه إلى حقيقة الدين والمعرفة الدينية.
لا شك ولا ريب أن إنتاج هؤلاء العلماء السابقين في علم الكلام موضع تقدير وإجلال، بيد أنها في الوقت الحالي لا تمتلك القدرة على مواجهة التحديات والتحولات والشبهات التي يفرزها هذا العصر، عصر ثورة المعلومات والاتصالات التي جعلت العالم أشبه بقرية صغيرة، حتى باتت الفكرة التي تنطلق من الغرب تصل إلى الشرق بلمح البصر، والعكس صحيح، فلم يعد ثمة فاصل زمني أو مكاني يحول دون انتشارها.
نعم هؤلاء العلماء سالفو الذكر يسجل التاريخ جهودهم وعطاءهم المعرفي ومقدرتهم على مواجهة الأسئلة اللاهوتية التي انبثقت في زمانهم.
إذن ما المانع من الاعتماد على هذه المنظومة المعرفية المتمثلة في إنتاج هؤلاء العلماء المتقدمين في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة؟
لا يخفى علينا بأن عطاء هؤلاء العلماء يتسم بالجدة والعمق والغزارة في زمانهم، لكن ليس من المعقول أن نتغافل بأننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، والتساؤلات والإشكالات المنبثقة فيه تعتمد على مقولات مغايرة لما كانت سائدة في زمنهم. فهل من المنطق بأن نواجه المسائل الجديدة المعتمدة على مقولات البنيوية والتفكيكية والديالكتيكية والهرومنطيقا، وبعضها حجر أساسها المعرفي آراء سارتر وفرويد ونيتشة وديفيد هيوم وماركس وهيجل وديكارت وشلايرماخر وكانت وجون لوك ونحو ذلك، بمنظومة معرفية عائدة للشيخ الطوسي - رغم جلالة دوره في تشييد البناء العقلاني العقدي - الذي عاش في القرن الخامس الهجري؟
ولا يعني ذلك بأني أدعو إلى التفريط بالتراث المعرفي الكلامي الذي يطرحه بعض المفكرين والمثقفين المعاصرين، بل
ينبغي العمل على تحصيل التكامل المعرفي القائم على التوازن بين الموروث الكلامي والتجديد الكلامي.
قد يقول قائل: الحوزات العلمية طوال مسيرتها التاريخية، وحجر أساسها المعرفي العقدي هو إنتاج هؤلاء الأعلام السابقين، بيد أنه في السنوات المتأخرة طلت برأسها علينا صرعة التجديد التي عمل المثقفون على ترويجها في الأوساط الثقافية المتمثلة في علم الكلام الجديد وفلسفة الدين ونظرية المعرفة ونحو ذلك من المعارف فلا ينبغي الاكتراث بما يروج.
هب أن هذه الصرعة قد روج له المثقفون الذين يسيرون في ركاب الحضارة الغربية والمتأثرين بالثقافة الغربية، إلا أنه ينبغي أن نسأل أنفسنا: ماهي وظيفتنا امام هذا الواقع الثقافي الذي يداهمنا وليس بالإمكان إنكاره، إذ إنكاره أشبه بإنكار للواقعيات؟ هل نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكنا بذريعة لا تشكل هذه العاصفة من الإشكاليات واقعاً معرفياً، أو نواجه هذه التساؤلات بأسلحة معرفية مهترئة غير قادرة على المواجهة، أو نعد العدة لمواجهة مطلقيها بنفس أسلحتهم المعرفية؟
وظيفتنا هو بناء منظومة معرفية قادرة على خلق رؤية متجددة متفاعلة مع التساؤلات والإشكاليات التي يفرزها هذا العصر والواقع المعرفي الحالي المتسارع الحافل بتولد الأفكار القلقة والنسبية وغير الثابتة لتلازم حاجتنا الماسة والملحة دوما إلى المنظومة المعرفية التي تسعى للاقتراب من ملامسة تساؤلات إنسان هذا العصر ذات الصبغة المركبة من الإبستمولوجيا والإيديولوجيا «المعرفية العقدية».
وبناء هذه المنظومة المعرفية لا يتم بجهود فردية وإنما من خلال عمل مؤسساتي، وهذا ما تنبه إليه المرجع الديني السيد علي السيستاني حفظه الله برعايته المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية التابع للعتبة العباسية، الذي يعنى بالإستراتيجية الدينية المعرفية، ومحور وظيفته تأليف وطبع ونشر وترجمة الكتب التي تعنى بهذا الشأن.
والسؤال الذي اريد أن أختم به هذا المقال هو: هل التجديد في المنظومة الكلامية يعني ظهور مسائل جديدة أم ماذا يعني؟
التجديد في المنظومة الكلامية ليس محوره المسائل الجديدة فقط، بل يمتد إلى جوانب متعددة تتعلق بالمنهج واللغة والمباني والغايات. ولذا من الخطأ أن ننظر إلى علم الكلام الجديد بأنه مسائل جديدة طارئة، وزادنا في معالجتها موروثنا المعرفي الكلامي، ومنهجنا في تناولها منهج قائم على صناعة الجدل. بل هو علم مغاير لعلم الكلام التقليدي في مسائله ومناهجه وتوجهاته ولغته ومبانيه وأهدافه وغاياته.
وهذا الفروقات نلمسها بوضوح عندما نقرأ لسروش وشبستري وملكيان وكيدور ونصر حامد أبو زيد ونحوهم حيث نجدهم يستخدمون أسس المعرفة الحديثة ومناهجها ولغة حديثة خاصة لا المنهج التقليدي ولا اللغة القديمة وكذلك ينطلقون من أهداف مختلفة عن أهداف المتكلمين التقليدين، إذ لا يعيرون أهمية لإثبات تعاليم الدين وإبطال الآراء التي تعارض الدين وليس الوحي لديهم يشكل حجر أساس في تحصيل المعرفة الدينية ومعرفة عالم الوجود. وعلى هذا يتطلب من المتصدين لمواجهة التساؤلات المطروحة والإشكاليات حول حقيقة الدين أو المعرفة الدينية أن يكونوا على إلمام بالمناهج المعرفية الحديثة كالهرومنطيقا وعلم اجتماع الدين وعلم الأديان المقارن وعلم نفس الأديان وأنثروبولوجيا الدين ونظرية المعرفة وأسسها الحديثة.