الوقاية من الضلال
ورد في دعاء الإمام الصادق : «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» «كمال الدين ص 351».
معرفة طريق الحق والهداية والدين الحنيف هو نتاج معرفة وبحث وتمحيص، يتحرك فيه العقل الواعي لاستكشاف حقيقة الخالق العظيم واليقين بما أخبر به رسله من إيمان بعالم الحساب والجزاء بعد الرحيل من الدنيا، فلا مستند في العقائد على العاطفة العمياء الفاسدة كتقليد الآباء، ولا خيارات الأهواء المضلة كما هي التعاليم التي يأتي بها أصحاب المصالح، مما يلقونه على أتباعهم المتصفين بالأمعية والتسليم الساذج، أما المؤمن فيتحرك في فضاء البرهنة والتبيين، قال تعالى: «إنما أنا على بينة من ربي».
وما يشير له الحديث الشريف هو مرحلة تالية للاهتداء وتبصر القيم الدينية، ألا هو التمسك بالحق وعدم الانزلاق إلى خيوط الانحراف والضلال، فالثبات على الحق ليس بالأمر سهل التناول، وذلك لما يجده المرء من محطات ابتلاء ومنعطفات زيغ فكري «الشبهات» أو سلوكي «الانحلال»، فمن استبصر الهدى لا يتوقعن الظفر والفوز الذي لا خسارة بعده وأن ذلك هو نهاية الأمر، بل هي البداية الموفقة ويتلوها ما ينبغي الاستعداد له بالبصيرة والمحاسبة.
واختار الإمام الصادق التعبير عن تقلبات أحوال الإنسان وعدم ثباتها عند البعض من الناس، بالتحول والانحدار نحو الضلال العقائدي أو التسافل الأخلاقي، بما هو متقلب في مشاعره وأفكاره وعزائمه وفقا لما يبتنيه من تصورات وأحكام ألا وهو القلب، فكما أن الأجواء متقلبة على حين غرة وبدون سابق إنذار، إذ سرعان ما تطبق السماء بالسحاب وينهمر المطر الغزير، أو تهب العواصف الترابية أو غيرها، كذلك هناك من العوامل والآفات التي يمكنها أن تزيل المرء عن مقره فتزل قدمه ويسقط في وحل الأفكار التضليلية، أو يحيط به من أصدقاء السوء ما يصرف همته عن محراب العبادة إلى مستنقع المنكرات.
وهذه التبدلات السلبية والخروج عن لباس الهداية أو التقوى ليست بالأمر الذي يحتاج إلى إسهاب في الاستدلال، بل يكفي الوجدان هذا الواقع الملموس في حياة من ابتع زمرة الصالحين وسقط بعدها في الضلال والانحراف، فكم من امريء كان مثال الرشد والإيمان فتبدل حاله، كجنة غناء ملأى بالأشجار والورود فأصابتها نار التيه والانحراف، فأحرقت زهرتها وأحالتها إلى رماد، فليكن المرء على حذر من أمره فيتنبه لكل فكرة يستعرضها ذهنه ولكل خطوة يقدم عليها؛ ليكون على محجة بيضاء لا يندم بعدها.
هذا التحذير الصادقي هو تنبيه للمؤمنين بالاستعداد لمحطات الابتلاء التي لا تخلو منها خطاهم، فهذا التاريخ البشري تمتليء صفحاته بالكثير ممن وقع في فخاخ الشيطان وتسويلات النفس، فالسامري استطاع أن يقتطع جزءا كبيرا من أصحاب نبي الله موسى فأعبدهم العجل بعد الإيمان بالله تعالى، وهذا قارون وقع في فتنة حب المال فاستعبده وجعله إلها وبوصلة ومعيارا لمنطقه وخطواته، فقد كان من قوم موسى وانحرف وأصابه الضلال السلوكي، وهذا بلعم بن باعوراء أغرته زهرة الدنيا فلم يسعفه صلاحه وما كان عنده من معرفة باسم الله الأعظم، «و لكنه أخلد إلى الأرض»، وفي حياة الأئمة الأطهار من زاغ عن الحق كالفرقة الواقفية مثلا والشلمغاني الذي حمله الحسد لأبي القاسم «السفير الثالث للإمام المهدي في الغيبة الصغرى» على الانحراف وترك طريق الولاية حتى صدر بحقه اللعن من الناحية المقدسة، وتعداد النماذج يطول ولن تكون له نهاية حتى يرفع الزيع والضلال نور الإمامة المنتظر .
والضلال الفكري «الشبهات» لا يقينا منه إلا التمسك بالحصون المنيعة في كل زمان وهم العلماء الورعون، الذين يتصدون لأصحاب الضلالات والانحرافات والتلبيسات، فيفندون ويبطلون مدعياتهم الزائفة.
وأما على المستوى السلوكي فلا يبقي شجرة التقوى والاستقامة مورقة يانعة في القلب إلا اليقظة والحذر من عواقب الأمور، فمن حمل بين جنبات نفسه هم آخرته ويوم حسابه، تجلبب بالحياء من لقائه والخشية من سخطه وعقابه، فمحاسبة النفس بنحو دائم يعيد للمرء رشده بالرجوع إلى الله تعالى والتوبة من الخطايا، فمن أحكم عقله في خطاه لم تسقطه الشهوات والأهواء في شراكها فتخرجه عن صلاحه.