آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

يوم السعادة

طاهرة آل سيف

في المساءات المتفرقة كثيراً ما كان يراودني الطيران مناماً، وحين أغفو أرى أني أطير في جو السماء، أصعد مرتفعاً ولا أدري هل كان قمة بيتي أم قمة جبلٍ لكنني حينها أرى مدينتي من العلو بالكامل، ثم أطلق ذراعي للعنان وأحلق، تخفق رئتاي وتمتلئ هواءً كما الطير، خفة لا أظن أن يجود بها جسدي عليَّ حين أصحو، رأيت ُ سطوح الأبنية والبيوت، منازل جيراني ومنازل أهلي وأصدقائي جميعهم عبرتهم من البُعد ونظرتُ لهم نظرةً من السطح، بعيدة عن العمق، بعيدة عن التفاصيل، وكل ما قد يختمر في نفسي ونفوسهم من أفكار أو كلمات أو نوايا، ثم أنني أدنو شيئاً فشيئاً من القاع من حيث لم أعلم هل هو قاع الأرض أم سريري فأصحو، مرات كثيرة كنت قد طرتُ مناماً، ولم يعجبني أن أعرف ما تأويل منامي هذا، لأن الذي يداخلني بعد المنام أجمل.

وأما ما تؤله نفسي فإن للسعادة والطيران سرٌ دفين، وحبل متين، يجهل السر من علق سعادته على رغبته، ويقطع الحبل من أقعدته أثقاله عن الطيران، أما الرغبة فهي كالبئر المالحة بلاقرار كلما اغترف منها الإنسان غرفة ازداد عطشاً، وأما الأثقال فهي نفسها التي هوت بآدم من الجنة إلى الأرض، من حيث لاترى منها السواد ولا تكيل منها الثقل، لكنها قادرة على أن تحجب عنك الجمال الحق الذي أراده الله لك، تلك الأنا الشفافة التي ولدت معك يلفك أنت وهي قماط أبيض رقع من أثواب الملائكة، ولم تكن تعرف بعد ماتفعله هذه الأنا إن هي يوما ًحركت قواها المظلمة، تتكالب على نفسك الأهواء والأحقاد والظنون فتمزق لك ذاك القماط الطاهر الذي كان يلفكما معا، ومن ثم تبقى أيها الإنسان حزيناً من حيث لاتعلم للسعادة لوناً فتبصره ولا طريقاً فتسلكه ولا حيلة لك إلا أن تشتم الدهر أو تنهر حظك.

وجه السعادة يطوي ملامح مختلفة بزوايا متفرقة للجمال كل ماعليك أن تسمح لبصيرتك أن ترى الجمال قبل بصرك، فنظرة البصيرة أنفذ وأبقى، زرت يوماً ما مرسماً لإحد الفنانين وكنت قد تساءلتُ عن سبب نجاح اللوحات وفشل الأخرى فقال: عن نفسي أنا أرى في كل لوحة فنية بقعة من الجمال وإن كانت تفتقد للكثير من عناصر الفن، فلابد من بقعة ظل تسقط على ضوء فتخلق هالة من الجمال فقط أنظري بإحساسك ولك أن تقيسي ذلك على شتى مشاهد الحياة، صدقيني حينها سترين البهجة في وجهها المستقيم.

كانت نظرة أعمق من لوحة وأبعدُ من بقع الألوان حتى صرتُ أقرأ في البشر جوانبهم المضيئة وأمضي معهم في هذه الدنيا على الجانب المضئ منهم لا المظلم، حتى لاتدين لي يوماً رابطتنا الإنسانية.

عاهد نفسك أيها الإنسان أن تشعرها بالسعادة فمن حقها عليك أن تريها أطياف الجمال وإن كانت قصيرة، في الزهرة على نافذتك حين ترتوي من مائك، في صوت عصفور صغير غرد في أرجائك، في حديث جميل تدخل به البهجة على قلب أحدهم واجعل من تبسمك ترجمان حب للكون، وفي أذان الفجر افتح جميع جوارحك ودعه يتمازج مع روحك حتى آخر نداء، عامل الدنيا باحترام وتصالح معها وإن وجدت نفسك في لحظة رضا اتجه نحوها واحتفل بتلك اللحظة فستعينك على استنكاف مافي يدي غيرك، وستركز حواسك على مابين يديك، وفراغات نفسك خلق الله لها الحب والإيمان ولم يخلق لها الذهب والأموال، فالأولى تبقى حين يرحل الجميع ولا تفنى حين يفنى الجسد، والثانية ترحل حين يرحل الجميع وتفنى حين يفنى الجسد، واعلم أن التعلق هو آفة الروح التي تنخر في قعرنا فتنهب منا جمالنا ورحمتنا وتوقظ بداخلنا قوى الإستئثار المشوه، إن تعلقت بمالك فلن تنفق مما تحب وإنما ستنفق مماتنفضه يدك، وإن تعلقت بالهوى ضل عقلك وتهت عن الحكمة تيهاً بعيداً، وإن تعلقت بالدنيا أبعدتك عن الأخرى.

قرأت يوماً حكاية، أنه كان هناك رجل فاحش الثراء سيء السيرة ظالم لعماله، وقد خلا قلبه من العطف والرحمة، وفي أحد الأيام تعرض لحادث أصيب من جرائه بالشلل وأصبح على حافة الموت، فأخذته الدهشة وتأمل حياته ووعد الله إن صحى جسده سيزهد في كل شيئ ويوزع أمواله، فاستجاب الله له فنفذ الرجل وعده وأعطى كل مايملك للفقراء وسكن في كوخ في أعلى الجبل زاهداً في ممتلكاته عدا شيء واحد ظل متعلقاً به وهو شال من الحرير النادر، احتفظ بالشال وعلقه على الجدار كذكرى من أيام الغنى، واستقر في حياته الجديدة بكل زهد وورع، وفي أحد الأيام لاحظ أن الشال قد قرضته الفئران، فحزن عليه حزنا شديدا، واضطر إلى جلب قطة للتخلص من تلك الفئران، ويوماً بعد يوم بدأ يستأنس بالقطة ويرعاها، وكان لابد من الحليب لإطعام القطة، فاضطر لشراء بقرة لتدر الحليب، ثم انشغل بالبقرة ووجد أنها تحتاج للعلف فانشغل بزراعة ارض من حوله لإطعامها ثم يوما بعد يوم عادت الأموال بين يديه وأصبح غنيا مرة أخرى وبدأ بتسخير العمال وإجحاف حقوقهم وعاد إلى سابق عهده ونسي كل وعوده وكل ذلك بسبب تعلقه بشال الحرير.

في يوم السعادة من كل عام أسأل نفسي ترى أين تكمن السعادة، رأيتها تكمن في النهر الذي لم يشرب من مائه والزهر الذي لم يشم عطره والبحر الذي لم يبتلع خيراته في أعماقه والشجر الذي لم يأكل ثماره، فالطبيعة لم تخلق إلا للعطاء، وفي جوار الله كانت السعادة في أصلها وتكوينها، ورأيتها هجرت بني الإنسان حين ضن العطاء والحب وادخره لنفسه، أغلق قلبه ولم يفتحه إلا على الهوى واللذة المتلاشية في الوقت، يركض خلفها ولم يدركها ولم يعلم أن آفتها الأنا والرغبة والبعد عن الله، جاء أحدهم لرجل حكيم وقال: أنا أريد السعادة! فقال له: فلتمح كلمة أنا وهي ذاتك ولتمح كلمة أريد وهي رغباتك وستبقى لك السعادة وحدها.

في العشرين من شهر مارس كان يوم السعادة العالمي، أهدي فيه سلام على من أعطوا من حيث منعتهم الدنيا، وداوو الجراح من حيث جرحتهم الأيام، وبكوا على آلام الناس من حيث لم يعرفوهم، وتناسوا الأذى فمدوا يد العون، سلام على من طابت قلوبهم فطابت لهم الحياة.

 

مصدر القصص الواردة من قراءات متفرقة.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 7 / 4 / 2018م - 6:25 ص
أدام الله لكم السعادة.
فيها ما لو رأى جبران من الروحية والمعنى لضمنها كتبه.

يأتي يوم تكون فيه كتابتكم وما اسعدتم به الناس سعادة لكم.

واصلوا العطاء والفكر فكل أمة تفكر وتعطي لا تموت.

كل الشكر لكم وخالص الدعاء. أسعدتني كثيراً.