آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

لن تمحو ذكرنا «الكلمة موقف»

أي كلمة تبعث روح الاعتزاز والاقتدار والصمود على مدى الزمان فلا يتلاشى أثرها، كذاك الموقف الذي تعلنه عقيلة الطالبيين في توقيت ينتظر فيه تسجيل انهزامها النفسي وخوار قواها، بعد أن قاست من المصائب والجرائم التي ارتكبوها مما يشيب رؤوس الرضعان ويفت الجبال الراسية، وإذا بها تحول الحدث إلى ما لم يتوقعه من يجهل شخصيتها ومنبتها، فبدلا من الانكسار والانهيار ها هي تسجل المواقف الصلبة والتي تعبر عن ثبات الجنان وقوة النفس في أعلى درجاتها، وتطلق صوت التحدي لمظاهر القوة الوهمية لأعدائها من جنود لا يغنون عنه من أمر الله شيئا، إذا هي مرحلة من مراحل الفرعنة والطغيان أمام جبهة الحق المتيقنة من نصر الله تعالى.

كم من كلمة لا تملك رصيدا من الواقع وإنما هي فقاعة هوائية ما تلبث أن تتبخر بلا أي أثر، وأخرى تشكل قوة حضور وتثبت مصداقيتها وتشكل موقفا يبنى عليه، فما هو الفارق الذي يميز بين الاتجاهين؟

الكلمة الانفعالية التي تصدر في لحظة غضب لا تمثل شيئا، بل هي مجرد تنفيس عن مشاعر متأججة كنار في ليف نخل سرعان ما تخبو، والوعود الخاوية غير المبنية على قراءة صحيحة للواقع والقدرات كذلك لا قيمة لها، فلا يمكن للسراب وخلق الأوهام أن تتحول يوما إلى حقيقة، والكلمات الطائشة والمتهورة والمتعجلة لا تكشف إلا عن شخصية ضعيفة لا تملك قرارا ولا موقفا، بل تتكيء في تظهير وجودها على صنع نمر ورقي ترهبه القلوب، وأما الكلمة ذات المصداقية التي تأخذ مكانها من عقول وقلوب الآخرين، فهي المبنية على ركائز راسية وتشكل قراءة للماضي والحاضر وتفصح عن مسار المستقبل.

وموقف الحوراء زينب لم يكن آنيا أو انفعاليا يعبر عن شدة الحزن والألم مما واجهته من مآسي، بل هي قراءة قرآنية تاريخية ومن علم الغيب الذي تلقته من بيت النبوة والوحي، فتكشف الأهداف الحقيقية لاستئصال وجود جبهة الهداية ورسالة التوحيد ومدرسة مكارم الأخلاق التي أرساها الرسول الأكرم ﷺ، كامتداد لمسيرة الصلاح والاستقامة التي نادى بها الأنبياء وأولياء الله الصالحين وعملوا على تطبيقها ونشرها بين الناس، وأما جبهة الفساد تعمل على عودة الجاهلية الأولى بكل تفاصيلها السيئة، ولا يمنع ذاك إلا الموقف الممانع من الإمام الحسين وأصحابه، وهذا الهدف الحقيقي لجريمة قنلهم.

ولقد عاشت العقيلة زينب دور الابتلاء بالمصائب في أقسى صورها وأفظعها، فلم يبرز منها - وحاشاها - الوهن أو اليأس أو التراجع عن الدور الرسالي، بل خاضت التجربة القاسية بكل أوجاعها وتجرعت آلامها وواجهت الموقف بكل صلابة، ولا أدل على ذلك من خطبتها في الكوفة والشام، والتي تكشف عن طمأنينة وتسليم بقضاء الله تعالى، ويقين بصوابية المنهج الذي ساروا عليه من طلب رضا الله تعالى مهما كانت جسامة التضحيات، فالشهادة حفظ لبيضة الإسلام وقيمه ورفعة تعاليمه وصونها من التحريف، وأما البلاء فهو عنوان المصداقية إذ يتجلى حينها ما يمتلكه العظماء من صبر وتحمل.

وأما الهدف النهائي من استئصال وجود أهل الحق وشمس الهداية وراية الإصلاح فهو بعيد المنال، مهما بلغت قوة الطرف الآخر وتعاظم سلطانه وكثرت جنوده، فإن النصر الحقيقي لا يرتبط بتحقيق الانتصار من الجهة العسكرية، بل هو تخطيط إلهي لديمومة الدين الحنيف وقيمه على مدى الزمان، وتأكيدا لصوابية كلمة الحوراء نجد أن الإمام الحسين وأصحابه هم من خلدهم التاريخ في وجدان وفكر الأحرار، وبقيت بوصلة الفكر باتجاه القيم التي دعى لها الإمام الحسين بالحفاظ على كرامة الإنسان وحريته، فحياة العبودية والذل لا تليق بالحر الشريف.

513872