آفاق الروح الرجبية
تتحدث الروايات الشريفة عن عطاء كبير ينصب انصبابا في شهر رجب، يهبه الباري عز وجل لعباده المتشوقين لهباته السنية، يتحرون تلك المواطن الزمنية التي يستظلون فيها بفيوضاته النورانية، فإن الوعد من كريم البشر ومائدته لا يتخلف عنها ولا يخامره شك بحصولها، فكيف بمن تعلق فكره وقلبه بانتظار مائدة الجوائز من أكرم الأكرمين في هذا الشهر الكريم لمن شمر عن ساعدي همته في ميادين العمل الصالح والرجوع إلى الله تعالى بتوبة صادقة؟!.
الطهارة الروحية والسعي نحو درجات الرقي والكمال وتهذيب النفس ومحاسبتها وعقد العزم على التخلي عن العيوب والخطايا على موعد مهم مع بداية السنة العبادية، فشهر رجب هو المقدمة الأولى للمحطة النهائية وقمة التجرد لله عز وجل واندكاك الإرادة والخطى بإرادته تعالى في شهر الله والحظي بصفاء النفس في شهر رمضان، وهذه البداية التغييرية ونقطة الانطلاق في الفضاء الإيماني يهبها الباري كبارقة أمل متجددة لعباده، فيصرف عن قلوبهم الشعور باليأس من التخلي عن وحل المعاصي وطريق الأهواء، فها هو شهر الرحمة والمغفرة يحل في ساحة الرجبيين ممن استعدوا وتأهبوا لاستقباله وإكرامه، فلترحل عن سماء هدايتهم ديمة الغفلة وعمى البصيرة والبعد عن القيم المعنوية، وقد جعل لهم الباري من الجوائز المشجعة ما يحفز نفوسهم نحو إعادة الحسابات والأخذ بمفردات الحالة العبادية من تلاوة القرآن الكريم ولهج اللسان بالأدعية والصوم، والتربية الأخلاقية هي الوجه الباطني لمحالفة محراب الطاعة والعبادية، فيتحلى بتلك الحالة من الطمأنينة والأنس بذكر الله تعالى، وتعاف نفسه وتسوء من ارتكاب الذنوب ورائحتها النتنة، وتنطبع تلك الأسرار والغايات العبادية على خلقه وسلوكه، فطريق القرب من الله تعالى يعني التخلق بأخلاق الله تعالى وطريقة تعامله مع عباده حتى العصاة منهم، وهذا ينبيء عن طيبة وتواضع وعفة عند المؤمن والمؤمنة، وينزه لسانه عن الآفات والزلات وخصوصا الغيبة والنميمة، ومن يطلب تجاوز الله عز وجل عن ذنوبه والعفو فبلا شك أنه يتعامل بروح التسامح وخلو القلب من الأحقاد مع من أساء له.
الرحلة الإيمانية العبادية في محطة شهر رجب هي برنامج تدريبي وتهذيبي يصنع شخصيته ويصقلها ويسمو بها في مسير التكامل، وهذه الفرص السانحة وافرة الخير والصلاح لا يمكن للأريب الواعي أن يفوتها، كيف وهو يعلم - علم اليقين - أن محراب العبودية هو المسير إلى القرب من الله عز وجل ورضوانه، ويهبه تلك المضامين العالية من طمأنينة النفس والأنس والإرادة القوية لما يعزم عليه، كما أن تلك الرقة في القلب وصفاءه تجعل منه وعاء لحلل الصفات الغراء كالإحسان والعفة والحكمة.
المحطة الرجبير العرفانية دورة تدريبية للنفس وإعدادها لمواجهة الصعاب والظروف القاهرة، فالعبادة بشتى ألوانها تحتاج إلى تنظيم الوقت والهمة العالية والنفس الطويل بلا ملل أو تكاسل، وهذه بعينها اسس مواجهة التحديات وتقلبات الأيام ومصادفة العثرات والمنغصات، فمن اكتسب من عبادته الرجبية محاسبة النفس وطموح اقتناص الفرص وعدم تفويتها واستشعار المسئولية، انطلق بقوة جنان نحو المحطة التالية الشعبانية؛ ليهل شهر رمضان الفضيل وقد صقلت نفسه وأعدت لتلقي فيوضاته والقيام بحقه.