آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

مكاتيب

يدلفُ شهرُ رمضان نحونا وفيه يتكرر الدعاءُ بأن يتمكنَ الداعي من الذهابِ إلى الحج. عدا أنَّ الدعاءَ في شهرِ رمضان مستحب ويظن فيه الاجابة كان الداعونَ في القديم يدعونَ وهم فعلاً في طريقهم إلى الحج. رحلةٌ تأخذ من غير الحجازي، الشامي والعراقي ومن أهلنا، أشهراً من السفرِ الشاق ومخاطر الطريق التي بقي حكاياها في بعض الكتب. في طولِ هذه الرحلة كانت المكاتبةُ الوسيلة الوحيدة لنقلِ المشاعرِ والأنباء.

الآن زالت مشقةُ الطريقِ وزال معها الكتبُ التي كان الناسُ يبعثونها إلى أهليهم يعلمونهم فيها أنهم بخير ويقصونَ عليهم بعضَ مشاهدِ الحج التي يرونها. تأخذ الكتبُ مدةً وقد يصل الكتابُ بعد عودة الحاج من سفره ولكنها تبقى شيئاً يُقرأُ من بعد الحدث وجزءً من التاريخ لا يمكن مسحه. في السبعيناتِ من القرنِ الماضي يصلُ البريدُ أحدَ الباعة في السوق ومتى ما صادف مرور فردٍ ممن يستطيع حملَ الرسالةِ إلى أهل من كتبها يأخذها لهم، لم يكن وقت وصولها مهماً.

ليس في الحج ولكن في كلِّ الأسفار لم يكن قبل توفر الهاتف سوى الرسائل التي تنقل شوقَ المسافرِ وهمومه وما يرى في السفر. ينتظر أياماً يصل بعدها البريدُ بورقةٍ أو ورقتين. يسرع في فتح المكتوبِ وقراءته كلمةً بعد أخرى وربما أعادَ القراءة. يذهب للسوق ويشتري القرطاسَ المزخرف الأطراف وينتقي أعذبَ الكلمات للرد ويودعها غلافاً كُتِبَ عليه البريد الممتاز ظناً منه أنها تصل أسرع من غيرها. كان الكثير من الجيل السابق أميونَ يذهبونَ لأحد المتعلمين يجلسُ في دكانٍ صغير يخط الوصايا والكتبَ بخطٍ جميل ويكتب الرسائلَ بعباراتٍ منتقاة تتشابه في بدايتها ونهايتها إلا ما ضمنه صاحبها من حاجةٍ أو أخبارٍ أراد أن يضيفها ولم يكتب الناسُ إلا لشخصٍ كانوا يرون عليهم لزاماً أن يكتبوا له وإلا فلا.

ذهب الهاتفُ برونقِ الرسائل بعد أن توفر نقل الصوتِ والاحاسيس دونَ انتظار واختفت تماماً عندما جاءت وسائل الاتصال الحديثة التي تنقل الرسالةَ والصورة دون فارق الوقت. اختفت المكاتيبُ واختفى معها الأحاسيسُ والانتظار. انتهى زمانٌ إن أردت أن تكتب كتاباً تختار أجملَ وأرق جُمَلٍ وتحسب أن وراءها زخمٌ من العنايةِ ألا تضطرَ إلى شطبِ كلمةٍ لا تريدها أن تصل وتحولت الكتابةُ إلى مشاعرَ آنية لا تأخذ وقتاً في صياغتها وتستطيع تعديلها متى شئت. تصلُ الطرفَ الآخر يقرأها بيدٍ وباليد الأخرى يضغط على زنادِ المسح متيقناً أنْ يعد قليلٍ تصل أخرى.

ربما زرتَ أحد المكتبات حديثاً واشتريتَ دون أن تلحظ أن هناك ورقاً ملوناً يُكتب عليه الرسائل ولم تلحظ أن هناك رفاً من الرسائل المطبوعة سلفاً وبها كلماتٌ اختارها الكاتبُ للكثير من المناسبات ليس عليك سوى إضافةَ كلماتٍ قصيرة واسمك قبل إرسالها. كل هذا اختفى ولم يعد الناس بحاجةٍ له واختفى معه الشعور بالكتابة واللقاء ورقة المشاعر. تاريخٌ انتهى بعد أن استطاع الناس حمل الكلمة والصورة دون انتظار. تاريخٌ يظهر تقدم البشر في وسائل الاتصال وتأخرهم في وسائل نقل المشاعر.

تتغير رسلُ المحبة بين الأحبة وكلهم يحملونَ رسالةً واحدة. عندما تغالبكَ المشاعر لا تستهزئ بها وخط رسائلك بيدك واحتفظ بها. يأتي يوم تقرأها مع من تحب وإن سافرتَ أو من أردت الكتابةَ له إلى ضفةِ الحياة الأخرى تكون تاريخاً وذكرى. أنفاسُ الليالي تخمدُ نارَ الشوقِ فربما كلمةٌ من الماضي أوقدتها...

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 25 / 3 / 2018م - 12:18 ص
راق لي جداً موضوع ماكتبت ، {عندما تغالبكَ المشاعر لا تستهزئ بها وخط رسائلك بيدك واحتفظ بها.} ، لطالما كنتُ أدون في دفتري رسائل من أحب حتى أعود لها في وقت الذكرى خوفاً عليها من التلاشي والنسيان في هذا الزمن ، ومن الضياع في خضم الأجهزة . أشكرك .
مستشار أعلى هندسة بترول