القطيف.. تراث حقيقي ووعي مزيف
«للِّسْعِ نعملُ دائماً.. والنحلُ يعملُ للعسلْ.. قومي رؤوسٌ كُلُّهمْ.. أرأيتَ مزرعةَ البصلْ»!
من العجب أن تكتمل قراءتنا في أعماق تاريخ أوروبا وإسرائيل وإيران وتركيا، حتى يكاد الأفراد المثقفون يتنافسون في تصحيح معلومات بعضهم البعض بغية أن يتفوقوا في حسن استقاءهم النهم من الكتب، لن تستغرب أن تجد شباب اليوم يحبكون النصوص الفلسفية والتحليلات العلمية، ولكن حين تقف في وجههم معلومة عن مسقط رأسهم يستثقلون الإجابة. كونك قطيفي هل قرأت عن أرض الخمس حضارات، عن متروكات إنسان الساحل الشرقي؟ هل لابد أن تحتاج لمرشد سياحي وباحث تأريخي يصحح معلوماتك ويلقمك ما لا تعرفه عنها؟!. ترددت في كتابة مقدمة قاسية تتناسب مع هذا الوعي ولكن ذلك ما يحتاجه هذا المقال، هذا المستوى الذي وصلنا إليه.
عندما تعتريك السعادة حين يومض المجتمع بحنينه للأمس، إلى قبيل عقدين للوراء، وميض لا يتعدى عرض الزمن المتاح للمعرض أو المهرجان، نلقي بالصورة المتبلدة على حائط، ورغم أننا نعلم أنها مصطنعة، وتشبه شوقنا للماضي لكن بشكل تدخلت فيه الإضاءة والتعديل، تجسد حرفة يمثلها ”الموديل“ وهو المكون الرئيس في الصورة، ستلاحظ بأن كثيرات هي الصور القطيفية المنمقة والمزخرفة اليوم، التي تعيد تصنيع الذاكرة وتعليبها، تلك الصورة المتكررة للبحر للنخلة وطفلة تلبس ”البخنق“، بيت لا حول له ولاقوة قد يهدم، وقد يعاد بناؤه. لا أدري هل يحق لنا بكل إنصاف أن نسأل عن أرشيفنا المدفون من صور الأمس؟، ولماذا نخفيه بين طيات الكتب؟، ومتى سيفيق من غيبوبته؟، ما الفائدة من حراسته من أيدي المحتسبين، ولا قاعة تعرض هذا الإرث، ولا موسوعة صورية كفيلة بأن تحتفي به وتظهره للأضواء. أثقيلة هذه الخطوة؟!.
حين تنادي الأخبار بين شهر وآخر كل عام، بأن الشركة الأجنبية الفلانية تعتزم ترميم الموقع الأثري الكذائي في القطيف، وأن فريق الآثار انتهى من الترميم وانتقل لغيره ويبقى الصرح الأثري مرمم لا لأحد، بين كومة أنقاض الحي ومستنقعاته، أو تعيد التعلق بآمالك بعد بادرة من مسؤول بعد ضجيج أثارته تغريدة، بتطوير أعمق قلعة تاريخاً على الساحل الشرقي، لكنها تصبح فرقعة لم يسمع لها صدى. هذا قبالة أننا تبرمجنا وصرنا نتوقع أن السياحة في القطيف هي الصناعة التي نشعر اليوم أنها ستصبح اختراع إن بادر بتكوينها رجل أعمال يرى في هذا الأرض المكنونة بتاريخها خيراً. في الوقت الذي فيه صارت الأحساء تزخر بالمكاتب السياحية الخاصة بداخلها، ويتنافس فيها أبناء العشرينيات لأخذ رخص الإرشاد السياحي من أجلها. وحين يكثر في القطيف محبو السفر ويعود الواحد تلوى الآخر يتغنى بثقافة الشعوب، ولا يعرف سطراً من تاريخ المواقع الأثرية البارزة في مدينته أو بلدته أو القرية المجاورة لقريته، أن يحاول البعض التشديد على أن مدينته ليست قطيفية وأن مدينته قائمة بحد ذاتها وتنفصل عن القطيف وفي المناسبات التراثية يتبعها في الهوية، وبدل أن نشجرها نلون جدرانها ونرقع عمرانها أكثر مما هو مرقع. إذن لماذا لا نصنع القطيف بهممنا كما صنع الأحساء أهلها؟!.
كيف يتصرف طالب جامعي أتاحت جامعته له أن يركن حضارة القطيف داخل معرض شعبي يتناول ثقافة الهوية في جميع تفاصيله؟، بل كيف يتصرف حين يتفاجأ بضم ركن القطيف لركن الأحساء، ومن سيتفوق؟. المبكي أن ما سيجمعه لهذا الركن عبارة عن ”ميديا“ أو ورق وصور تبدأ الجملة التعريفية بها بكلمة ”كان“ وستنتصف بكلمة ”آيل“، أما المضحك هي محاولة الاستعانة بكتب وثائقية لتاريخ القطيف، توقف إصدار نسخ منها بطبعات جديدة، قد تجد بعضها في شارع المتنبي؛ ربما، وقد تضطر للعودة لدار النشر لتتأكد من توفر نسخ للاقتناء، وقد لا تعرف كتاباً واحد منها تضمه لقائمة تحدي القراءة التي تتوقع لنفسك إنهاءها هذا العام. أضف لذلك تأهب صحافي استقصائي لإصدار موسوعة توثق نخيل القطيف وتؤطرها داخل مستواها الكفؤ ونصفق بحرارة رغم أننا أهلها نتوجس من الثقة بصلاح تمرها لمشاريع استثمارية، ولكننا نستثمر ”الجدب“ الذي نتذرع بقيمه الغذائية بكثرة، بينما بلغت الأحساء مبلغاً من إنتاج التمور المصنعة حد إنتاج سكر من التمر. علاوة على أننا نحتاج تلك الثقافة المخالفة لثقافة طفل العامين حين تعلم طبع رمي الأوساخ من نافذة السيارة كما يفعل والده. لابد أن نعي ما نبني منذ اليوم لمن سيأتي بعدنا، لأن البقاء هو المستقبل، لأن اللحظة الآنية هي ما نبني عليه ما نحتاج إليه داخل القطيف.
صوتي هنا لا أضمن سماعه، ولا أنوي الصراخ بعد جهود ما زالت تشد ساعدها على الورق، وتقف على ساقها لكي تطرق بكعبها على الأرض هذه لتشعرها بوجودنا، نحن المتفرجون أمام الباحثين والتأريخيين، والأكاديميين، الذين تلتوي سواعدهم بعد جهد التعب، لدينا من يستخدم الإرشاد السياحي ليصل صوته، ومن يظهر من نافذة ”اليوتيوب“ لنرى ونسمع ونعرف القطيف كما هي لا كما صارت، ومن من يصيغ المقالات والكتب ويعتكف رغم كبر السن والفاقة، ومن يعيد حملة التنظيف الكرة بعد الكرة دون يأس لعله يتكون هدف. علموا أبناءكم عن هذه الأرض وحضاراتها، ومكنوناتها، خذوهم في جولة سياحية، علموهم الزراعة كما لم تعلمنا المدرسة، ارووا لهم قصص عيونها وأساطيرها، شجعوهم على إماطة التلوث بكل صوره عنها. لا ييأس الواحد من ابنه حتى يفعل هو ما يحب أن يراه يفعل بها.
وراثة الوعي من أجل الجيل الجديد حمل ثقيل. نحن أبناء التسعينات نعي تماماً ما كان يجتهد فيه آباؤنا وأجدادنا في نهار كل يوم، ولعل ”زمن الطيبين“ ولى تماماً إلا من رحم ربي. لدينا دوماً ذلك الحنين، لكل الأنحاء التي كانت بخير في القطيف، بل كنا محظوظون أن شهدنا تلك الحقبة، الآفلة بكل مافيها كما يتنبؤ المزعجون. الموروث صار فارغاً لأنه لم يعد هناك الكثير من المهتمين، ولأن الرسالة يحملها المبهرجون، يعيديون تعليبها ويتعالون عليها، على الرغم أنه ما يزال هنالك من يحتضن الموروث داخل خزانته وكأنه تحفة لا يريد لأحد مساسها، يجمعها ويحتكرها، يسورها أو يردمها، لكنها تبقى في قلوبنا والمسؤولية أن نمررها لهذا الجيل الذي يكبر بيننا في هذه الغفلة. ما نورثه لهذا الجيل لا يستحق أن يكون فارغاً، التراث والبيئة وثقافة الهوية هم باقة كونت الفردوس المفقود. فما هو دورك؟.