هوان النفس و تأثيراته
ورد عن الإمام الهادي : من هانت عليه نفسه لا يؤمن شره» «صحيفة الهادي ص 394».
مسارات الخطورة التي تسلكها النفس البشرية هي ما تقود صاحبها نحو المهالك وأودية المخاطر وما يلحق بها الضرر، فكل مسار يقود نحو العواقب السيئة ويحيق بالمرء نتائج وخيمة تدمر مستقبله، تتجنبه النفس المتيقضة والحذرة من مزالق السبل، وأهم تلك المخاطر السير الأعمى خلف الأهواء والشهوات، إذ تغيب المنظومة الفكرية عن النظر في النهايات والآثار قبل أن يخطو خطوة واحدة، ويقع في مطبات الخطايا ومقارفة المنكرات ومعاقرة القبائح والمعايب، ولذا فإن عملية التحصين التهذيبي تخلق حالة من الوعي والممانعة للوقوع في المحرمات.
ومن تلك المسالك الخطرة هوان النفس وافتقادها للتقدير والعناية من الإنسان ذاته، فإن لتلك الحالة إفرازات مخيفة ومنها تبلد الإحساس تجاه العيب والمحظور، فيغدو المرء كالسكران فاقدا للوعي فيما يرتكبه، فلعله يرتكب جرائم شريرة وعدوانية تسبب ضررا لنفسه ولمن حوله، ولذا يعطينا الإمام الهادي تصورا واضحا لمسار - هوان النفس - قد يخفى على الكثير أنه العامل الكبير في ظهور سلوكيات وتصرفات عدوانية قد تجذرت في النفس منابتها، ومكمن الخطورة في هذا المسار هو النتيجة غير المتوقعة لأي تصرف قد يصدر ممن يحتقر نفسه وافتقد الثقة بها، فنزع لباس الحياء والعقلانية فأضحى يتصرف بعدوانية لا يحسب فيها نتاج فعله.
وهوان النفس لا يتعلق بنظرة الآخرين وتقديرهم لشخصه ومكانته وعطائه وإمكانياته، وإن كان لذلك تأثير نفسي عند ضعاف النفوس والمهتزين وجدانيا، ولكن هذا الهوان نشأ داخليا من نظرة المرء المهزوزة لنفسه، فلم ير فيها إلا صورة التافه والفاقد للقيمة والعاجز الذي لا يمكنه أن يلتحق بركب أصحاب معالي الأمور والفضائل والمتحلين بالفكر الواعي، لا يرى مكانا لائقا لنفسه بين الناجحين.
استشعار قيمة النفس والكرامة الإنسانية يجعل المرء يتجنب كل ما يلحق به الإهانة والاستصغار للشأن، ولذا تراه يتجنب كل تصرف مشين يسقطه في وحل العيوب والمثالب، فيصون عرضه ويرفع شأنه بانتهاج كل سلوك قيمي وتعامل أخلاقي رفيع.
كما أن احترام الإنسان لذاته يجعله منخرطا في ميدان الإنجاز والتفاعل مع كل الوسائل التطويرية لقدراته، فيرى قيمة نفسه من منظار ما يحسنه ويتقنه من أعمال ودراسات، ولكن متى ما فقد تقدير ذاته واستهان بإمكانياتها أصبح كائنا يفتقد لمقومات المثابرة واللطموح، وضعفت قواه عن مواجهة ما يعصف به من ظروف قاسية ومحن.
شخصيتك صورة تنقش معالمها بريشة تصرفاتك ومواقفك، فالإنسان نفسه هو من يزن قيمته علوا ودنوا، فهناك مسلك التكامل والتحلي بالفضائل والتعامل بالأخلاق الراقية واتخاذ القرارات الحكيمة والمناسبة، ومسلك آخر هو تسافل النفس عندما يفلت زمام أمورها عن لجام التعقل والرشد، والخوض بعين الغرائز والشهوات في وحل الخطايا والانحلال الخلقي، وعلى الإنسان إن أراد تجنيب نفسه الضرر والعطب والمهالك أن يبصر بنظرة ثاقبة لمآلات ونتائج كل خطوة يقدم عليها أو فكرة تخامر عقله وتتبلور فيه، فهذه البصيرة هي ما تجنبه مواطن الذل وفقدان الكرامة وهوان النفس والسقوط من عين العقلاء، وعليه تحمل مسئولية أفعاله في كل الأحوال.
واحترام الآخرين له يفرضه بخلقه وأفعاله الحسنة، فيصنع لنفسه مكانة وقيمة عالية في كل موقف يبنيه على وعيه لا طيشه وغفلته.
ومتى ما غابت النظرة الوازنة لذاته وأصبح لا يرى لها قيمة يحافظ عليها، فلا يخشى على نفسه من السقوط في وحل الخطايا والقبائح والمعايب، حينها يتحول إلى كائن خطير قد فقد السيطرة على فكره وحواسه، فيتخذ من الخطوات الخطيرة والعدوانية ما يعرض الأمان المجتمعي والأسري للاهتزاز، فيقدم على أفعال جنونية لا يرى عواقبها، ويصبح يدا طيعة لنفسه الشريرة، وعبدا مطيعا لمن يحقق له مصالحه الضيقة، فهو مستعد حينها لبيع دينه وعلاقاته في سبيل الحصول على حفنة مال أو نيل وجاهة أو سلطة.
على النخبة الثقافية والمجتمية الحذر من حالة اليأس والإحباط الذي يعاني منها الشاب والفتاة، إحساسهم بالضياع وفقدان بوضلة تحقيق الأهداف المعلية لشأنهم، تحولهم لأدوات تأنس بالتخريب وإيذاء النفس والآخرين، لشعوره - ببساطة - أنه شخص تافه لا يوجد عنده ما يفقده أو يخسره.
كما أن حالة الحرمان العاطفي والمادي تسبب اختلالا في النفس، وتدفعه نحو تعويض ذلك من خلال قنوات غير مقبولة، فهو ينظر حينها بعين الحقد على الآخرين، وينسب لهم السبب الحقيقي لما صار إليه، هكذا يبرر ويعلق أخطاءه على شماعة الإهمال الذي عانى منه.