آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

الكواكبي وقضية الحرية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

حين قرأت كتاب عبد الرحمن الكواكبي، «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، للمرة الأولى، كنت في ريعان الشباب، لم أتمكن حينها من الربط بين كتابات هذا المفكر الواسع الخبرة والعلم، وبين السياق التاريخي والأحداث العاصفة التي كان المشرق العربي يمور بها أثناء حقبة تأليف الكتاب.

وحين عدت إلى قراءته قبل عدة سنوات، اكتشفت من خلال القراءة والمقارنة، والمقاربات، أن الكثير من قراءته وتحليله، لا يزال ينطبق على حال أمتنا الآن. إن ذلك يجعل من هذا الكتاب مرجعاً مهماً في تشخيص ما يجري في منطقتنا.

فتح الكواكبي عينيه على الدنيا لأول مرة عام 1854، في فترة تعاقبت فيها على مصر أحداث جسيمة. فقد شهدت مصر في نهايات القرن الثامن عشر قيام نابليون بونابرت بحملة عسكرية واسعة عليها، تمكن خلالها من احتلال البلاد. وشاءت المصادفة أن يقوم شاب مجاهد عام 1800، يدعى سليمان بن محمد أمين الحلبي، هاجر من سوريا للقاهرة لتلقي العلوم في جامع الأزهر، باغتيال الحاكم العسكري للحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر، احتجاجاً على الاحتلال الفرنسي لمصر ودفاعاً عن حرية شعبها.

وحينها بدت ملامح الضعف والشيخوخة والفساد واضحة على السلطنة العثمانية. فقد انفصلت بلاد البلقان عن السلطنة، وشهدت بلاد الشام وجزيرة العرب، حركات استقلالية، أخذت تنهش جسم السلطنة، وعجزت الدولة، عن توفير المستلزمات المالية لتسيير شؤونها، مما ألجأها للمديونية من البيوت المالية الأوروبية، بشروط مجحفة وباهظة، وضعت المزيد من ممتلكات السلطنة رهينة بيد الدائنين. ومن جهة أخرى، كان المماليك، في مصر يعيثون فساداً واستبداداً وطغياناً. ويحملون الشعب المصري من الأعباء والأتاوات ما لا طاقة له بها.

في ظل الفوضى العارمة التي سادت بلاد النيل، برزت تجربة محمد علي باشا، كمنقذ للشعب المصري. وقد تبنت مشروعاً نهضوياً، شمل محورين مهمين: أولهما الوعي المبكر للباشا، بأن مصر لا يمكنها تحقيق تنمية اقتصادية وصناعية حقيقية، إلا بالخروج من شرنقتها، والتماهي مع عمقها الجغرافي والتاريخي، بلاد الشام والوصول إلى منابع النيل، وبناء جيش مصري قوي قادر على الدفاع عن هذا المشروع. إن مصر المعزولة داخل حدودها مآلها الحتمي الانهيار والفناء.

إن قراءة كتاب الكواكبي، لن تكون صحيحة، إن لم نأخذ بعين الاعتبار المرحلة التاريخية التي صدر فيها الكتاب. فقد صدر، بعد تداعي تجربة محمد علي. وهذا التداعي تم بواسطة هجمة كولونيالية مباشرة وغزو خارجي، ساهمت فيه بريطانيا وفرنسا وروسيا، فرض على الباشا الانسحاب من بلاد الشام، والانكفاء داخل حدوده في مصر، كما فرض عليه معاهدات مهينة. وجاء من بعده، ابنه الخديوي إسماعيل، ليستعير الفهم المشوه للتمدين. وليغرق مصر في ديون هائلة اقتضى تسديدها، «بيع الجمل بما حمل»، ورهن استقلال مصر، وتسليم الشؤون المالية للمستشارين الفرنسيين والبريطانيين.

تشاء المصادفة مرة أخرى، أن يكون الكواكبي، القادم من حلب الشهباء، أن يتصدى، كما تصدى سليمان الحلبي من قبل، كل بطريقته الخاصة، للاستبداد والطغيان في مصر. اختار سليمان خنجراً طعن به رمز الطغيان والاستعباد، ممثلاً في الجنرال الفرنسي، واختار الكواكبي أن يحارب بالكلمة والقلم. وبقي «السيف والقلم» يعبران عن انتماء عربي أصيل ووشائج قوية بين الشعبين الشقيقين، عمدت وحدتهما بدماء المجاهدين في كلا البلدين وتضحياتهم.

فالتجربة الخديوية أخذت مكانها مباشرة بعد هزيمة مشروع محمد علي، بينما برزت تجربة مماثلة لها، قبل أقل من مرور عقد على هزيمة الجيوش العربية في يونيو/ حزيران 1967، وفشل مشروع التنمية الذي بدأت ملامحه في التشكل منذ منتصف الخمسينات.

وكما كان سقوط التجربة الأولى، مقدمة لضياع المنطقة بأسرها وسقوطها في نفق التفتت والفوضى، وانبعاث المرحلة الأولى من مراحل التصدي العربي للهيمنة العثمانية، وقيام الثورة العربية ضد العثمانيين، والغدر الفرنسي البريطاني، الذي انتهى بسايكس بيكو ووعد بلفور، فإن مرحلة السبعينات أدخلت المنطقة بأسرها في نفق التسوية، وكانت نتائجها توقيع اتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة واتفاقية أوسلو بين مصر والأردن وفلسطين، وبين «إسرائيل».

وليس من شك في أننا الآن نعيش أسوأ حالاتنا، فقد تم احتلال العراق، وتدميره هوية وكياناً، وإعادة تأهيله محلياً على أسس ومحاصصات إثنية وطائفية، وإضعاف دوره العربي. وجاء الخريف العربي، ليحرق في طريقه الأخضر واليابس، وليلغي أوطاناً بكاملها؟

ليس هناك بد من إيقاف حالة التدهور والانهيار في أمتنا العربية، ولا شك أن مقدمات الخروج من الأزمة الراهنة، تعيدنا إلى الجذور.. إلى أدب الكواكبي، وهو يتحدث عن عقد اجتماعي، وعن رأي حر، ومشاركة في صناعة القرار، وعن دول عربية يحكمها القانون، ويكون فيها المرء سيد نفسه. هذا النمط من العلاقات التعاقدية، هو وحده القادر على إخماد الفتن، وتحقيق السلم الاجتماعي ومواجهة التطرف، وبناء تنمية سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية متينة، وجيوش قوية قادرة على الدفاع عن الأوطان.

إن تنمية القوى البشرية، هي المدخل الصحيح للتنمية الشاملة، وقديماً قال أجدادنا «العقل السليم في الجسم السليم».

فبدون أن يكون هناك إنسان عربي حر، قادر على ممارسة حقوقه الأساسية بعيداً عن الضغط والإكراه، لن يكون هناك مستقبل واعد لأجيالنا.. وسيتواصل الليل طويلاً وعاتياً.