آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

الغفلة

طاهرة آل سيف

في خميس من الأيام السالفة الأثر، كانت جدتي تشاركني حنينها، فتصطحبني معها في مشوارها، تمسك بيدها بساط ومصحف، وباليد الأخرى تمسك يدي بقبضة أحكم من الحب وأقوى من الضياع، وكأقوى درس علمتنيه جدتي كان في مشوار الخميس ذاك، كان باب أزرق عريض ندخل منه، يملأ الغبار مقادم الأرجل، الناس خلفنا ومن أمامنا، جميعهم يحملهم الشوق المترامي في الأسى حتى يقفون على منازل من ودَّعوا، تقول لي جدتي أن أملأ قنينةً بالماء من جانب السواقي وتملأ هي واحدة أخرى، ثم نمضى في خطىً متسارعة كتسارع الأشواق في قلبها، حتى نصل إلى تراب حار يابس سلطت عليه الشمس من لهيبها ماشاءت، فبات التراب غباراً تذروه الرياح يمنة ويسرى، حفر فيه تقادم الزمن حفراً صغيرة متجاورة، هي الأرض تطوي آثار أبناؤها البشر تنبتهم من باطنها ليعيشوا فوقها، ثم تحملهم بأثقالهم على ظهرها عمراً بأكمله وعند موتهم تحتضنهم بأقوى عصرة منها فلا تبقي لهم أثراً إلا النزر من صدى الأصوات وخيالات الصور التي لاتغادر قلوب أحبابهم، تجلسني جدتي بجانبها تسقي القبر ماءً برعاية وحنان تستجدي منه حسيساً فما هو إلا وشيجة المادة الوحيدة بين من يعيشوا على ظهر الأرض ومن رقدوا في باطنها، كان يصعب علي فهم مايفعله الماء بالقبور، والعظام قد نخرت والأحشاء قد تجوفت والسنحات قد تبدلت، والأرواح قد تحررت من جواذبها وفارقت موادها وهامت في جو السماء، لكن جدتي لم تفتؤ تبكيه كما الأمس وكما أيام الطفولة والصبا التي تقاسمتها مع أخيها، ومن جدتي عرفتُ الحنين كما يكون في أقدم صورة وأوفاها، تقرأ القرآن ثم تحكي له أمور من يعيشوا فوق سطح البسيطة وأسماء من ارتحلوا عنها، تستجدي منه جوابا إن كان له لقاءً بالذين نزلواهذه الدار من بعده، تلتفت إلي باسمة: إنه القبر يا ابنتي، دار الرقدة الطويلة التي لا يقظة بعدها إلى أن يشاء الله، رقدة السلام تلك لا يفصلنا عنها فاصل سوى تجرد الروح من المادة، حتى حُجبت عنا فلانسمع ماتسمع ولانرى ماترى بعيدة عن الآلام بعيدة عن الضجيج كالبعد مابين تلك الروح والجسد الذي خُلعت منه، يصعب علي الحديث الذي تحكيه جدتي لكنه باقٍ يتأرجح في ذاكرتي كلما طرقت المنية باب الدنيا واصطحبت لها خليلاً، نفضت عباءتها ولملمت بساطها وقالت: مع السلامة يا أخي هذا بيتك الأبدي فنم به قريراً، عهدي معك في منازلك أينما حللت أشم ريحك واقتفي أثر ذكراك حتى ألقاك في هذه الدار الجديدة، مضت السنين وماتت جدتي وكأني استحضر بالأمس جلستها عند قبر أخيها تحكي لي عن رقدة الإنسان الطويلة وها هي قد رقدتها وعزلتني عنها الحجب فلم يبقى لي سوى ذكرى من صدى صوتها وخيالات من صورها.

على حين غفلة تتسلل النهاية نحونا، ونحن نتقلب في أحضان الدنيا تُقلب المنية نظرها في وجوهنا في اليوم ألف مرة من حيث لانشعر، مابين لعب ولهو وصور من السعادات وصور من الآلام نمر عليها بلاعظة أو ذكرى، وقبل الرقدة الهانئة يتخطف الخوف من حول وسائدنا في كل مساء، وما إن يحين الفجر حتى ينسل من دواخلنا الخوف كما ينسل آخر خيط أسود من رداء الصبح، ماتلك الغفلة التي تسطو علينا من حيث لانلمس منها قوة فنجتمع على غلبتها، ولا نملك عليها منبه فيوقظ حواسنا وقت الإنغماس والاستسلام للدنيا، أرى بين الغفلة والغفوة حرفان في القرب وأمد طويل في البعد يغفو الإنسان على سبيل الراحة في دقائق ويفيق وجوارحه قد شُحذت همة وسعي، ويغفل الإنسان على سبيل المتعة عمراً وإن شاء الله أن يبعثه من غفلته تحسر على مافرط فيها وقال كم لبثت!، وإن لم يشأ الله له ذلك كانت الفغلة ندامة المنتهى، أما النهاية فهي انقضاء الحكايات والأعمار، أياً ما أنفقت فيها فهو موصومً بالحزن لامحالة، فاجعل لك من العظة نصيباً، فالعمر بلا أثر كالكد بلا حصيلة، نهاية عمرك تعني انقضاء عملك وسكنة أبدية لإرادتك، ونهاية حكايتك تأتي على يديك إما رقدةً هانئة في كنف الرحمن أو رقدة نادمة ترجو العفو من بارئها.

يامن بدنياه اشتغل

قد غرهُ طول الأمل

الموت يأتي بغتة

والقبر صندوق العمل

ولم تزل في غفلةٍ

حتى دنا منك الأجل

«الإمام علي »

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 5 / 3 / 2018م - 11:41 ص
ونعم التذكير والذكرى. جزى الله جدتك كل خير على حسن الصحبة والزرع.
احسنتِ، الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا
الف شكر على التذكير بقلم حاد في الرقة ورشيق في وخز العقل الباطن.

بارك الله فيما تكتبين ونصلي لله أن ينبهنا وإياكم ومن قرأ من رقدة الغافلين.