آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 9:28 م

أولُ الغيث

المهندس هلال حسن الوحيد *

22 شباط من هذه السنة، أولَ يومٍ تبتلُ فيه الارضُ بقليلٍ من المطر. ترى من تحتِ غيومِ السماءِ الرقيقةَ أرواحَ المخلوقاتِ وتسمعَ أصواتها قائلةً مرحباً بك أيها الزائر، لم نركَ منذُ زمنْ! لا يزورنا المطرُ كثيراً في أرضنا الصحراوية فماذا سنكون لو كان مطرنا أكثر! يأتي المطرُ قليلاً، يبلُ الطريقَ ويصير وحلاً وطيناً لا ينفذ إلى باطنِ الأرضِ إلا القليلَ لتخزنهُ يومَ الحاجة إليه وتبقى الغصةُ ألم يكنْ قدرنا أن يكونَ نصيبنَا من المطرِ أكثر من وحلٍ وطينْ.

لو جاءَ المطرُ أكثر لا بد أن تخضرَ أرضنَا وتكثرَ وتحلوَ مياهنَا وفاكهتنَا وتبيضَ سحنتنَا السمراء. الخيرُ والشرُ يتجاذبانِ وجهةَ البشر منذُ خلقتهم. لو لم يكتشف البشرُ النارَ واستخدمها في حياته ليصهرَ الحديد ويطوعَ الارضَ ويبني بيته ويطهوَ طعامه لم يصلَ إلى هذا الجبلِ من التقدمِ في المدنية والعمارة. حقَّ لأهل الفلسفة أن يحتاروا إن كانت خيراً أو شراً لا يخلقه الله. صنف أرسطو النارَ واحدةً من العناصرِ الطبيعيةِ الأربعة وهي الماء والهواء والمادة والنار. عبدها الزرادشت وهي الطاقةُ الفتاكة التي تحرق العاصينَ من البشرِ في عقيدة المسلمين. أحالَ الانسانُ بطبعه نعمةَ النارِ إلى حممٍ يقذفُ بها عدوهُ ولم ينسى أن يدمرَ بها ما ينجز وما تنجزهُ البشريةُ إلى رمادٍ فكأنما هو في صراعٍ مع عدوهِ ومع ذاته.

افتتنت البشرية بالنار والماء. من استطاعَ أن يحصل على الكثير منها كانت له السيادةُ والحضارة ولهذا السبب كان ازدهار الحضارات والشعوب مرتبطاً بوديانِ الأنهار المائية الكبيرة ولشحةِ المياه وندرتها بادت حضاراتٌ كانت لها الريادة. بالماء يعمرُ الإنسانُ الأرضَ ويزرعها ويصنعُ أدواته وبه وبالنار يستغني عن كل شيء. من لديه نارٌ وماءٌ لا يحتاجَ إلى شيءٍ سواهما. تنفذُ كُلُّ المعادنِ وتنضبُ كل ذخائرِ الأرضِ ولا تتجدد في عمرنا البشري المحدود لكنَّ من تمطره السماءُ لا تنفذ ذخائره.

لا بد أن يغيرَ المطرُ شيئاً من قلقِ الإنسانِ وعدوانيته. من تمطرهُ السماءُ يرقُّ طبعهُ كما يرقُّ جلده. تتغير الطبيعةُ وتتغير معها مشاعرُ الإنسانِ وعلومه وأدبه وشعره وحضارته فهل من تمطره السماء يكون أقلَّ عداوةً في ابتداعِ وسائلَ يصنعها ويحرق بها الدول والمجتمعات الاخرى. نارُ الحروبِ التي شبعت منها أممٌ كان من تمطره السماءُ مطورها ومبدعها ولا يرضى إلا أن يحتكرَ الحضارةَ بالماء والنار. ربما لو لم تمطره السماءُ لم يكن بهذه العداوة لغيره.

مالم يصل المطر إلى داخلِ أرضِ الإنسانِ كما يصلَ إلى أعماقِ الأرضِ فسوف يبقى ذلك الإنسان صلباً وشيطاني الذاتِ والهوى في الغربِ والشرق.  الماءُ والنار أسس تطوره وإبداعه، بهما يصل قممَ الحضارةِ والتقدم في كل شيء وينسى أنه إنسان.

ننتظركَ أيها الزائر المقل بكل حب. تعالَ لتنقذَ أرضنا وتنمو أزهارنا وتجري ينابيعنا. تعالَ معاً نحول أرضنَا الصحراءَ الجردَ إلى واحةٍ ينتظرها الموتُ دونك. لا يكفينا ما تحتنا من ينابيعَ ربما تنضب يوماً ما وبدونها وبدونك نموت...

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
نبيل المرزوق
[ المنيرة ]: 23 / 2 / 2018م - 10:25 م
نعم نناصرك في اهمية المطر للأرض ومن عليها، المطر هو الحياة وبدونه تخلو الحياة.

مقال جدا جميل سلمت يداك
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 25 / 2 / 2018م - 5:27 ص
وكأن الغيث قد تباهى بكلماتك عنه ، حتى أمطرت السماء بالأمس فامتلأت الطرقات والمدن جمالاً ، كل الشكرلك على ماتكتب
مستشار أعلى هندسة بترول