آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

قلم الزمن

التقيت ظهرَ اليومِ عدَّةَ أصدقاء بعضهم عرفته منذ ما يزيد على أربعينَ سنة. انا تخيلت لو أعطاني الزمنُ قلماً وقال لي خُطَّ على وجوههم تفاصيلَ الأربعين والخمسين والستين كيف سأرسمها؟ هل سألوا أنفسهم عني نفسَ السؤال!

بدا كلهم مختلفاً عما كنت سأرسم. فرحتُ لمن كان القلمُ به رحيماً لا زال يعاقر خمرَ الشبابِ والكهولة ولم أحزن ممن رسم به القلمُ خطاً أو خطين وأزاحَ عني ألمَ الزمان أن القلمَ كان عطوفاً بأرواحهم كلهم. لو اغمضتَ عينكَ وسمعتَ صدى صوت أرواحهم لا بد أن تقول هو ذاك دون أن تراه. لا تحزن إن حز القلمُ بجرابِ روحك أكثرَ مما أنت تريد. ليس هذا الجسد الذي نلبسهُ سوى غمداً للروحِ فإن هي كانت حادةً وناصعةً مثل السيفِ المهند أكلت فيه وإن كانت أقل حماساً بقي الغمدُ سليماً.

نصحبُ الناسَ ونراهم كل يومٍ وفيها يخط القلمُ ويرسم بهدوء وسكينة ملامحَ وتذكار أمسٍُ لا يحس بها ولا يراها إلا من يفتقدها. ماذا يجري لو فتحتُ عيني ورأيت زوجتي شاخت ورأتني شيخاً؟ ربما فزعت لكن رحمةُ القلم تنبع من بطئه ومن إخفاءه التفاصيلَ عن العين كي لا تلاحظها. لهذا أراها كل يومٍ صبيةً كانت تحبها عيني والآن تحبها عيني وروحي.

لا تحزنوا، أنا لم أرى سوى أرواحكم الغيرَ منظورة والنصفَ الآخر الأجمل فيكم. رأيتُ الأرواحَ الشابةَ اليانعةَ المرحة وربما جامحةً حينها. كلها صارت إلى الأجملِ في الحكمة والوضوح. قلمُ الحياة لم يكتفي بتفاصيلِ الوجهِ والروح ولكن خط لكل واحدٍ منكم زقاقاً تبدون فيه سعداءَ ولم تضيعوا في الطرقات.

يشتكي أصحابي من سيلانِ قلمِ الزمان في الحزن وجموده في الفرح وليس ذلك سوى أن انفعالاتِ الحزن أكثر توهجاً من الفرح. هذا اليوم مستثنى من تلك القاعدة. يأتي يومٌ يتولد من أثير هذا المساء موجاتُ ضحكاتٍ وقهقهاتٍ كم كانت عاليةً تتجسد وتصير أنتم بشراً في عنفوانِ الشباب وريعانه تعودون. انظر إلى وجهك في مرآة الحياة الليلة، لن ترى فيها خطاً واحداً. إن لم تصدقني احضر صورتك قبل أربعينَ سنة وأنظر سوف تراها كما انت. فقط لا تحضر صورتي أو شخصا آخر. أحضر صورة زفافك تراها هي لم تتغير، ماذا لو كان بها خطاً أو خطين أو ثلاثة! القلم لم يخط على روحها شيئاً.

ليس للبشر إيقافُ القلمًِ ولكن ربما امسكنا به قليلاً حتى يكون رحيماً بملامحنا وبقوةٍ كي لا يمس بأرواحنا أما الزقاقُ فربما هناك زقاقاً آخر في الحياة تمشي فيه. عندما أراك في اليوم التالي أرجو أن تبقى كما أنت وإن لم تستطع سأصغي بأذني  وأسمعُ روحكَ وصوتكَ وأغلقُ عيني عن قلم الزمان. هكذا أنا رأيتك اليوم فكن لي غداً كما رأيتك اليوم...

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
سامي الدبيسي
[ تاروت القطيف ]: 19 / 2 / 2018م - 6:51 ص
مبدع داءما مضمون جميل باسلوب ادبي رشيق
2
عدنان الساده
[ صفوى ]: 20 / 2 / 2018م - 9:55 ص
أحببت الريشة و الرتوش الجميلة التي وُضِعَت بمكانها اللائق
جميلٌ يراعك
مستشار أعلى هندسة بترول