دافوس وتغول العولمة 4 - 4
تزامنت العولمة مع نظرية اقتصادية تتمثل في الليبرالية الجديدة، وقد أشار كل من هانس - بيترمارتين وهارلد - شومان «ألمانيين» في كتابهما المهم الذي جاء تحت عنوان «فخ العولمة - الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية».
«اتخذت في الثمانينات الغالبية العظمى من الحكومات الغربية هذه الليبرالية مناراً تهتدي به في سياساتها، وهكذا صار عدم تدخل الدولة إلى جانب تحرير التجارة وحركة تنقل رؤوس الأموال، وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية، أسلحةً استراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق، وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيّرة من قبل هذه الحكومات، والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي منظمة التجارة العالمية.. فقد غدت هذه المؤسسات الوسائل التي تحارب بها هذه الحكومات في معركتها الدائرة رحاها حتى الآن من أجل تحرير رأس المال».
من هنا لا يمكن فصل الحديث عن تفاقم حجم المديونية العالمية على سبيل المثال عن العولمة بطبعتها الليبرالية الجديدة، حيث تفيد عديد من التقارير الاقتصادية على خطورة تفاقم حجم المديونية العالمية الذي تجاوز 152 تريليون دولار بنهاية عام 2015، وستصل إلى 170 تريليوناً في عام 2017، حيث تصل نسبتها من الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي إلى 225 في المئة بنهاية عام 2015 وفقاً لتقرير صندوق النقد، في حين بلغت حصة القطاع الخاص نحو 70 في المئة من حجم الدَين العام، أي ما يعادل أكثر من 100 تريليون دولار، وفقاً لصندوق النقد.
الولايات المتحدة التي انطلقت منها الأزمة المالية عام 2008، تعد الأكثر مديونية في العالم «كدولة واحدة» مع 19,7 تريليون دولار، تعادل 114 في المئة من الناتج. وينقسم الدَّيْن الأمريكي إلى فئتين: حكومي ويبلغ نحو 5,5 تريليون دولار، ومملوك من القطاع الخاص ويبلغ نحو 14,2 تريليون.
من جانب آخر ارتفعت مديونية البلاد النامية من 1,94 ألف مليار في سنة 1996، لتصل في سنة 2000 إلى حوالي 2,100 ألف مليار دولار، كما تصل إلى 2,400 ألف مليار دولار إذا ما أضفنا إليها مديونية دول شرق أوروبا، علما أن حجم المديونية ما زال مستمراً في الارتفاع، غير أن هذه الديون الباهظة لم يكن لها دور إيجابي على صعيد التنمية المستدامة، حيث لا يزال الفقر والفساد والبطالة والمجاعة وتدهور الخدمات مستمراً في التفاقم في الغالبية الساحقة من تلك الدول.
الأسئلة التي تبرز هنا هل الليبرالية الجديدة هي الصيغة السحرية والدواء الناجح للمشاكل التي تعاني منها البشرية، خصوصا بلدان العالم الثالث التي تئن تحت وطأة التخلف والفقر والمرض والجوع والأمية والاستبداد والتبعية؟
إذا كان الجواب سلباً وفقاً لوجهة نظر العديد من الساسة والاقتصاديين والمفكرين وقبل كل شيء وفقاً للحصيلة والنتيجة الملموسة لتجربة بلدان المركز والأطراف التي أخذت بمفهوم الليبرالية في طبعتها المعاصرة، فما هو السبيل والمخرج؟ وهل هنالك طريق آخر جرَّبته أو لم تجربه البشرية قادر على ملامسة شغاف وأحلام وآمال البشرية في الانعتاق من ملكوت الضرورة باتجاه تحقيق مملكة الحرية؟
أم أن البشرية هي «سيزيف» كل العصور مكتوب عليها الشقاء والمعاناة بعبثية تكاد تصل إلى حد التسليم والإذعان والإيمان بأن ما يجري هو من نواميس الحياة والكون والطبيعة لا مفر ولا راد له؟
مساءلة ومجادلة الليبرالية الجديدة وإخضاعها للتحليل والتقييم والنقد ضمن إطارها وشروطها وحدودها التاريخية لا تبدو صيحة في برّية، فالمسارات والنتائج التي أفضت إليها الليبرالية الجديدة أدت إلى خلق أوضاع صعبة ومعقدة، خصوصا في بلدان الجنوب حيث ينعدم الحد الأدنى من آدمية وكرامة الأغلبية الساحقة من البشر، ويفرض بقوة مشروع أممي محدد وواضح لرأس المال الدولي فيما يعرف بسياسة التثبيت والتكيف الهيكلي تحت عنوان الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبموجب ذلك لم تعد مسائل مثل صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، واختيار أسلوب النمو الاقتصادي والاجتماعي من حق وصلاحية تلك الدول التي رضخت لمشروطية المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة للقروض، ولأول مرة وفي ظروف ما بعد استقلال وتحرير غالبية بلدان العالم الثالث من براثن الهيمنة الاستعمارية القديمة يتم تشكُّل «الإدارة المركزية الخارجية» لصنع القرار الاقتصادي والسياسات الاجتماعية للبلدان المختلفة، وهذا التدخل لم يقتصر على فرض سياساتها فيما يتعلق بمسائل مثل ميزان المدفوعات وضمان حرية حركة رؤوس الأموال، وسياسة التوظيف والاستثمار والسياسات المالية والنقدية والضريبية والائتمانية فقط، إذ جرى التدخل لفرض تصورات المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات متعددة ومتعدية الجنسية، والدول الغربية المُقرِضة، فيما يتعلق بسياسات الأجور والإعانات وتقليص الميزانية العامة عن طريق تخفيض النفقات وأشكال الدعم المقدم للخدمات والسلع الأساسية، وإطلاق الأسعار وتصفية وبيع ممتلكات ومشاريع الدولة خاصة المشاريع الناجحة والمربحة، فيما يعرف بسياسة التثبيت الهيكلي والتخصيص، وفتح المجال أمام الرأسمال الأجنبي والمحلي لتملكها عن طريق شراء أصولها الثابتة أو الدخول كأطراف مشاركة، ويتم ذلك وسط تفاقم المديونية والانكشاف الغذائي والتبعية الاقتصادية والتكنولوجية.