حجاب وحجب
عادت بنت من بلاد الاغتراب بعد أن حققت حلمها، بنيلها الشهادة الجامعية، حاملة معها أحلامها وطموحاتها، ولسان حالها يقول:
أنا طوال فترة دراستي في الغرب لم أتماهى مع المنظومة القيمية الغربية، ولم أنهزم فكرياً وثقافياً، ولم أشعر بعقدة نقص لتفوق الآخر من خلال معطياته العلمية والثقافية والحضارية، بل امتلكت قوة فكرية مكنتني من رفض أن أُصاغ بالصياغة الغربية، إذ حافظت على حجابي، ولم أعتبره مظهراً من مظاهر التخلف والتأخر والتحجر والرجعية، وبقيت ثابتةً على قيمي التي تربيت عليها وأصالتي وهويتي الإسلامية، وفي الوقت نفسه لم أدخر جهدا من الاستفادة من كل معطيات الغرب العلمية والمادية والفكرية والمعرفية الحضارية والإنسانية الإيجابية.
وها أنا الآن عدت إلى أحضان الوطن، فأعلنها صراحةً دون مواربة وبصوت جهوري مسموع:
أنا كيان ناضج فكرياً وثقافياً، لحياتي مغزى وهدف أريد الوصول إليه، وهذا لا يتم تحقيقه بحجبي عن أداء دوري في هذه الحياة، فكما الرجل يضطلع في هذه الحياة بدورٍ، ويتطلع إلى تحقيق ذاته وطموحه من خلاله، فأنا لا أقل عنه شأناً وطموحاً. وعلى هذا أقولها دون خوف أو وجل:
أنا في الغرب رفضت أن أُصاغ بالصياغة الغربية وتمزيق حجابي، وهنا أرفض القالب الذي يحجبني عن أداء دوري في هذه الحياة باسم الدين أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية البالية التي لا تتناسب وطبيعة العصر. فليس من المعقول أن أجتاز امتحان الحجاب في الغرب وأتعثر في امتحان الحجب في الوطن.
أنا أعي واقعي كامرأة شرقية، إذ يتجاذبني طرفان: طوفان العولمة وموروث اجتماعي أكل عليه الدهر وشرب. ولكن بفضل الله وبفضل المنظومة الثاوية في داخلي من الوعي والفكر، أصبحت قادرةً على عدم الاستسلام للثقافة الغربية وقيمها واللهث وراء ما تحمل من غث وسمين. وكذلك بفضل هذه المنظومة اتصفت بالشجاعة في الوقوف أمام واقع اجتماعي ذكوري فيه من الامتهان والحيف والظلم والازدراء والاحتقار، يجعلني تحت وصاية رجل لا يعترف بي ككيان له دوره وفاعليته في هذه الحياة، بل يبقيني على هامش الحياة.
هذه المنظومة شكلت لي حصانةً من أن أنبهر بإطروحات المناوئين للدين ودعاة التغريب، الذين يريدون إبعادي عن ديني وقيمي من خلال دعوات براقة تسيل لعاب من لا تمتلك وعياً بخفايا ما وراء إطروحاتهم، كالدعوة للتحرر ونبذ الحجاب لأنه يمثل الرجعية والظلامية والتخلف _ في نظرهم _.
يخاطب مصطفى كمال أتاتورك الجماهير، وهو يمزق الحجاب:
”لقد أحرزت نصراً مبيناً على التقليد والأعداء، يرجع الفضل فيه للجند، والنصف الآخر لتمزيق الحجاب“.
وفي الوقت نفسه هذه المنظومة شكلت في داخلي قوة رفض الفهم المتزمت للدين الذي يسعى لحجبي عن أداء دوري ولا يقيم لي وزناً أو أهميةً، ولا يراني إلا سقط متاع، وظيفتي إشباع رغبات الرجل وشهواته.
فهنا أسأل مجموعة من التساؤلات ذا الفهم المتزمت وأصحاب الثقافة الذكورية:
_ هل إطروحاتكم المتزمتة التي تذهب بعيداً في تفريطها بحقوق المرأة من صميم الدين أم نتاج ثقافة ذكورية؟
_ هل الروايات التي تزدري المرأة وتصفها بنقصان العقل وعدم الأهلية موضع قبول أم تحتاج إلى توجيه ومقاربة تنسجم مع روح الإسلام ومقاصده؟
هل يمكن القبول بفتاوى تشجع على عزل المرأة عن الحياة اليومية وحجبها في بيتها وإقصائها عن مختلف مناحي الحياة «استحباب حبس المرأة في البيت، فلا تخرج إلا لضرورة» وهي نصف المجتمع، وتساهم بشكل ملفت في اقتصاديات البلدان، وتقتحم ميادين العمل بكل كفاءة وجدارة واستحقاق، وباتت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، وعنصراً فاعلاً في تقدم وتطور المجتمع؟
هل من المعقول أن أقبل بإطروحاتكم المتزمتة البعيدة عن روحية الدين، وأن أفرط في حقوق منحني الدين إياها؟
أيها المناوئ للدين:
لا تدعِ حرصك في الدفاع عن حقوق المرأة، وأنت تخفي وراء الأكمة ماوراءها، فالتحرر الذي تنشده المرأة المسلمة ليس التحرر من الحجاب والقيم الإسلامية، بل تنشد التحرر من الحجب لتتمكن من أداء دورها كخليفة الله في أرضه.
أيها المتدين المتزمت:
يا من تدعي حرصك على الحفاظ على عفتي وكرامتي وأخلاقي، فالحفاظ عليهم لا يكون بالحجب والعزل، إذ الحجب مظهر من مظاهر التخلف والتحجر والتزمت، يتعارض مع الدين الإسلامي الحنيف الذي جاء ليرفع من شأن الإنسان وكرامته، فلا فضل لمذكرٍ على مؤنث إلا بالعمل والعلم والمعرفة والكفاءة والتقوى لا بجنسه الذكوري.
وتختم البنت حديثها:
المناوئ للدين والمتزمت في الدين على حد سواء، فكلاهما لا يقلان أحدهما عن الآخر خطراً
وضرراً على المرأة، و
لذا أنا لا أقبل بضياع هويتي وطمسها بتمزيق حجابي مسايرةً لدعاة التغريب، وفي نفس الوقت لا أقبل بذوبان ذاتي وطمس كياني بحجبي وعزلي وإقصائي إرضاءً لأصحاب الفكر الديني المتزمت.