ملة إبراهيم - الحلقة الحادية عشر - سبيل الله
توصي الوصية العاشرة من وصايا ملة إبراهيم باجتناب التفرق عن سبيل الله البيّن الواضح في كلماته ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1] والتفرق عن سبيل الله هو ابتعاد وتفرق عن كتاب الله، فما الذي يضطر الأمم للتفرق عن هذا السبيل والابتعاد عن هذه الكلمات؟
تتفرق الأمم عن سبيل الله حين تضطر للملاءمة بين علوها الذي تنصه كتب أخرى، وبين القسط الذي يتحدث عنه كتاب الله، وتلك الملاءمة هي تغاضٍ على حساب القسط وتسامح تتسلل من تحت عباءته أحكام مضافة وعقائدُ مبتدعة لا تجد من ينكرها ويخرجها من حظيرة الملة. الآية عندما تقول ”لا تتبعوا السبل“ فلمعرفتها بضعف إرادة الإنسان أمام موروثه، وبتأثره بالواقع والتيارات الجارفة، ولتحذر أتباع الملة من الانجرار وراء السبل ونسيان سبيل الله تمشياً مع الطبيعة البشرية في الأنس بالسلوك الجمعي والخوف من التفكير مفرداً والخروج عن المألوف. فللمألوف هيمنته التي تتغلغل في عمق وجدان الأمة، خصوصاً إذا طال عليها الزمن وابتعدت عن أصل مَنشئها، وتحُول تلك الهيمنة بين الأمة وبين نصها الأصلي ”سبيل الله“ لترى نفسها مضطرة لأدلجة الواقع وشرعنته فتسعى جاهدةً للبحث عن أدلة تثبت ماهي عليه لا عن الحقيقة بذاتها من ”سبيل الله“. تعاقب القرون والأجيال ينشيء عند الأمة الجمود والرهبة من أن تكسر الصندوق المعتم الذي نشأت فيه والذي يشعر كل فرد من أفرادها بأمان الانتماء، لا بأمان الله. ووصيتنا العاشرة في ملة ابراهيم تنص على وجوب تثبيت الأصل بكلمات الله واعتبارها السبيل الوحيد محذرة من اتباع سبل أخرى. وهو الأمر ذاته الذي تتحدث عنه آيات أخر واصفة ذلك السبيل وتلك الكلماتِ الربانية بالحبل الممدود من السماء إلى الأرض ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[5]
لقد مد الله سبحانه بكلماته المُنزلة حبلاً متيناً هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ولأن كلماته واحدة وسنته واحدة فحبله واحد، يجسدها النبي المرسل في أفعاله كأول المسلمين لها، ويخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[2] هذه هي حقيقة الرسول وهذه مضامين أقواله التي يحفظها الكتاب. لكن هناك صورة أخرى كان من المفترض على الأحزاب المتفرقة عن ملة إبراهيم أن تعتبرها صورة كاذبة مزيفة حين تعرضها على كتبها السماوية، صورة تبتعد عن حبل الله مسافة تجعل من الرسول مؤسساً لحبل آخر غير حبل الله بكلمات أخرى هي غير كلمات الله، وهكذا فكل أمة لديها من الأقوال ما يكفي لأن تبتعد عن هذا الحبل الممدود، ولديها من الامتيازات العقدية ما يبعد بعضها عن بعض، لأنها تتحرك باتجاهات متعددة مختلفة ومتشتتة. يقول الله سبحانه عن الرسول مبيناً صورة الرسول الحقيقية ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[3] . إذاً الآية تبين للناس أن الرسول الذي يجب أن تؤمنوا به يؤمن بكلمات الله ومتعلق بها كما يتعلق الغريق بحبل النجاة، ولا يأتي من عنده بشرع جديد ولا يؤسس أمة جديدة تبتعد عن حبل الله وعن ملة إبراهيم، فالرسل جمعاء أمة واحدة ومعتصمون بحبل واحد. ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾[4] .
إن أمم ملة إبراهيم تتقارب بالاعتصام بحبل الله، والاعتصام بالشيء لا يكون بالعض عليه بالنواجذ وحسب بل وبالامتناع عن غيره، وهذا الاعتصام لا يكون إلا بالامتثال بوصية ”عدم التفرق عن سبيله“ التي تحذر من حبال أخرى مزورة تفتن الناس لتخطفهم ثم تفرقهم عما جمعهم الله عليه.
لقد أنهت ملة إبراهيم وصاياها العشر بوصية تغلق الباب أمام الكلمات الدخيلة وتأمرنا أن نؤمن جميعاً بوحدة الكلمة، فبوحدتها تتحد الرسل، وبوحدة الرسل تتحد الأمم التابعة لهم، وتضمحل بقية الكلمات وتتلاشى الحبال الأخرى التي تنافس حبل الله وتعود أمة إبراهيم أمة واحدة برب واحد.