آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

الديرة عبق من التراث تهاوى

عباس سالم

في الماضي كان الأهالي في الديرة بجزيرة تاروت يلقون التحية والسلام على عين العودة كل يوم قبل الفجر وقبل أن يغسلوا أجسامهم فيها لتكون جاهزة للصلاة على محمد وآله في أحد المساجد القريبة منها.

فكلما أخذتني الذكريات للزمن الجميل لأتذكر ماضي الأجداد أحن إلى معشوقتي «الديرة» في جزيرة تاروت فأذهب لأشم عبق التراث فيها وأكحل عيني بجمال الفن المعماري القديم، وما أن تهم رجلاي بالدخول من أحد بواباتها الرئيسيّة شمالاً أو جنوباً، تتسارع دقات قلبي عن طبيعتها! وكأن أقداري أحبت تنبيهي إلى ما كان ينتظرني فيها.

وأنا في طريقي بين أزقة الديرة أنظر إلى تلك الأطلال التي تحيط بالبيوت كشال من أشجار السدر التي تعانق السماء قد هوت إلى الأرض! وأنزلت رأسي حزناً ثم رفعته لأرى «قلعة تاروت» التي يمتد تاريخها إلى أكثر من 5000 سنة، هذه القلعة التي سكنها العديد من الغزاة الغربيين المهاجرين عبر البحار إلى مياه الخليج العربي.

وعندما وصلت إلى القلعة أسدلت ستائر الأجفان على عيني، وأمسكت بجدار صغير عند مدخلها والذي لا زال شامخاً إلى اليوم لكنه حزين متعرٍ من أثر جور الزمان عليه! في الماضي كان الوصول إلى قلعة تاروت متعة، حيث كنا نتزاحم على اللعب في عين العودة التي كانت تروي بمائها العذب النخيل وأشجار اللوز والتين والوردِ والريحان، وكنا نركب فوق القلعة ونكحل أعيننا بجمال البساتين التي تحيط بجزيرة تاروت من كل الجهات في ذاك الزمان.

وما أن دخلت، ذهبت إلى العين لألقي التحية عليها، فوجدتها مغطاة ببقايا صخور سورها التي استوطنت المكان وقامت باحتلالها، وجلست على إحداها أبكي على فقدان نعمة لا غنى لكل مخلوق عنها «الماء»، وبعد أن كفكفت دموعي عدت إلى البستان المجاور لها لعلي أرى تلك النخيل الباسقات وأشجار اللوز والسدر التي كانت تعطر المكان برائحة ثمارها، فلم أجد فيه سوى بعض الشجيرات! وهناك قررت الاستمتاع بزقزقة العصافير عليها كما هو حالي في الزمن الجميل.

وأنا في طريقي اقتربت من جذع نخلة بلا رأس وصرت أتلمسه وأنا أترحم على الرجال المزارعين من أبناء ديرتي الذين خدموا في الزراعة حتى رحلوا عنا دون رجعة، وجلست أنصت إلى زقزقة العصافير وفوجئت بأنها هنا «تزعق» وتصرخ كأنها تطلب النجدة وصارت زقزقتها العدوانية شبيهة بصرخة إنسان تائه في وسط صحراء من دون ماء، فسألت نفسي: ترى هل تتكيف العصافير مثلنا مع المناخ المحيط بها ويتبدل خطابها؟

بعدها عدت ثانية إلى المنطقة القديمة «الديرة» وتجولت في أزقتها لأتذكر تلك الأيام الجميلة في الزمن الجميل، حيث كنت أنا وأصحابي نلعب كل يوم فيها، فلم أرَ إلا أطلالاً من الصخر متراكمة فوق بعضها البعض ومنازل كانت عامرة بأهلها قد تساوت مع الأرض، وبيوتاً رحل من كان فيها وأصبحت ملاذاً آمناً للطيور، فوقفت أمام بابٍ لا يزال شامخاً إلى يومنا هذا لكنه لا يسمح لأحد بالدخول منه!

وبينما أنا واقف أمام ذلك الباب وإذا برجل مسن يقترب مني فقدمت له التحية والسلام، وسألته عن ذلك الباب فقال إنه باب «حسينية بن جمعة» الذي كنا ندخل منه كل يوم نستمع إلى كبار خدمة المنبر الحسيني في ذلك الزمان، واليوم هجرها الناس! ثم قال لي أنتم الذين هجرتموها بعد أن رحل المؤمنون الذين كانوا يرتادونها بلا رجعة، فرفعت رأسي أدعو الله تعالى لهم بالرحمة والغفران، فذهبت وأنا أكفكف دموعي من الحزن.

وأخيراً قررت الرجوع إلى بيتي، وأنا في طريقي استوقفني صديقٌ لي قائلاً: هل تفكر في العودة إلى الديرة؟ فأجبته: بل أخطط للعودة إليها كل يوم! سألني: لماذا يا مجنون؟

قلت له: إن فيها عبق التراث ورائحة الأجداد، فكيف لا وأنا عاشق لأطلال ديرتي ولا شفاء لي والعشق يجهل المنطق العقلاني.. ولعلّ كل عاشق مجنون ما يعشق!