الحكيمُ والغني
يحكى أنه تصادقَ في سالفِ الزمان رجلٌ حكيم وآخرُ غني وعزما على السفر ذات مرة. سفرُ الأمس ليس مثل سفر اليوم فلا بد للمسافر أن يقطع البراري والقفار ويتعرض لصنوفِ المخاطر. اضطر الرجلانِ أن يبيتا في العراءِ وكان الجو بارداً فلا بد لهما من طريقةٍ لوقاية نفسيهما من شدة البرودة والموت.
قرر الغنيُ أن يتخذ من جلدِ بقرةٍ كان يحمله دِثاراً وقرر الحكيم بعد أن نظر إلى الطبيعة من حوله أن يشتغلَ بالحركة ونقل الصخور في الوادي القريب منهما. كان لكلً منهما ما أراد ولكن ما أصبح الصباح إلا وقد تجمدت أطرافُ الغني من البرد ومات ولم يحمِهِ جلدُ البقرة من البرد القارس. أما الحكيم فقد ظل مشتغلاً طوالَ الليل بنقل الصخرِ مما ساعد على حركة أطرافه والحفاظ على حرارةِ جسمه مرتفعةً وبقاءهِ حياً حتى طلوع الشمس ودفء الجو. صدق الإمام عليّ بن أبي طالب حين قال: ”لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة“! يهلك الجاهلُ وهو غني ويبقى الحكيمُ والعالم مع فقره.
بين جدران الحاضر يبقى الغنيُ هو من يعيشُ معروفاً أينما يذهب ويعيش العالم والمبدع غريباً بين أهله وفي وطنه. ليس معروفاً ما هو السر في افتراق المال والعلم والإبداع أو اجتماعهم لكن من يتفحص الأزمان بطولها يجد أنهم قلما اجتمعوا في شخصٍ واحد. لعل الحكمة التي يهبها الربُّ لمن يشاء ”وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا“ هي من يستطيع الجمع بين الاضداد.
العلم والمال في أغلب الاحيان يسيران في اتجاهين متعاكسين ولكن الحكمة تأخذ الفقير في السفر في اقطار الارض والتردد في آفاقها وراء لقمة العيش وسد الحاجة ”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ? وَإِلَيْهِ النُّشُورُ“ والحكمة هي التي تجمع المشي في الأرض والرزق المادي والمعرفة. الحكمة هي من تحول الفقر والألم والوجع إلى عاصفةِ إبداع ولغة أرواح لا يفهمها ويدركها إلا الحكماء. هي من تحول الضعف إلى قوةٍ دافعة تبعد من يحملها عن مصدر الألم. بينما الجهل هو القوة العمياء التي لا ينفع معها المال وكتلة الرياح الباردة التي لا ينفع معها غطاء.
ربما لا يجتمع الكل في الإنسان العادي دون أن يكون موضع اهتمامٍ وعناية ويعطيه الرب مفاتيح الحياة ”يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ“ ويملأ مخازن قلبه منها. القلب والجسد البشري يقنع بأحدها عن الجميع وهي لن تجتمع حتى يجتاز الانسان صحاريَ وأوديةَ الجهل لكي يصل إليها. إذا جاءتك واحدٌ منها فاطلب الأخرى. إذا جاءك المال فاطلب العلم وإن جاءك العلم فاطلب الحكمة، ربما تكون اختارك الربُّ لأن تلبس رداءَ الجمالِ الكامل.