آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

ميتا النص

وديع آل حمّاد

«النص مقدس والتأويل حر، والكرة في ملعب المثقف، ورجل الدين عنصر غائب ينبغي عدم البحث عنه».

هذه تعليقةٌ وصلتني من أحد المتابعين لسلسلة الاستغراب، فستوقفتني ملياً، فأخذت أقلبها في ذهني يمنةً ويسرى، فتحفزت لمعالجتها وسبر غورها من خلال تقنية النص الغائب، والبحث عن ميتا النص «ماوراء النص»، لأن معظم الالتباسات التي يقع فيها المتلقي تكمن في قبول النص دون تأمل فيما وراءه، الذي يستبطن ملاحظات مستترة وحمولات مضمرة، ويفترض بالقارئ أن يتلمس تلك الترميزات الثاوية والإشارات المختفية، ليكون بمنأى عن سوء الفهم، ولئلا يقع في شرنقة غايات وأهداف ومآرب المرسل.

وأثناء تقلب ذهني في هذا النص، وجدت المقطع الأول منه محفوراً في ذاكرتي: «النص مقدس والتأويل حر». فقفز إلى ذهني تساؤل وهو: أين قرأت هذا المقطع؟

وبعد جهد فكري جهيد أهتديت إلى ذلك، بأن هذا المقطع للمفكر التونسي الدكتور محمد الطالبي في كتابه «عيال الله»، إذ يقول:

«أنا لا أحصر الاجتهاد في شخص معين، فكل إنسان ينبغي أن يجتهد في الحياة، فالنص مقدس والتأويل حر».

سأبدأ معالجاتي بإثارة مجموعة من التساؤلات:

نحن في عصر تجاوزنا الحداثة إلى ما بعد الحداثة، فهل من المحتم علينا أن نسقط التخصص في حقل الفقه والشريعة والدين وأصوله؟

هل بإمكان كل فرد منا _ مهما كانت قابليته الذهنية وكفاءته المعرفية ومستواه الثقافي أن يخوض في أمور الشريعة والفقه، وهو غير متخصص؟

هل أتى الوقت الذي نعلن فيه عدم حاجتنا إلى رجل الدين وعالم الشريعة والفقه؟

نعم نحن نعيش في عصر ما بعد الحداثة، الذي له سماته وخصائصه وأدواته الفكرية وملامحه الثقافية وأنماطه التفكيرية التي تميزه عما سواه من العصور.

ومن الطبيعي هذه السمات التي تميز هذا العصر عن غيره تفرز لنا تساؤلات جديدة وإثارات فكرية ومعرفية غير مسبوقة وقضايا فلسفية غير مألوفة ومسائل كانت داخلة في دائرة الممنوعات.

وهنا نسأل: هل هذه الإفرازات التي تولدت كنتيجة طبيعية لما يشهده هذا العصر من تحولات فكرية تمنح أحداً الحق بإسقاط التخصص في المجال الديني وإبقاء باب الاجتهاد مشرعاً لمن هب ودب بذريعة مواكبة العصر أو أحد متطلبات التطور؟

المطالبة بتنحية التخصص في الأمور الدينية عن الحياة، هي دعوة غير عقلائية، حيث تتعارض مع بديهيات العقل. وبدورنا نسأل أصحاب هذه الدعوة تساؤلاً:

لو أفترضنا أحد الأشخاص مريض بالكلى، إلى أي طبيب سيذهب؟ هل سيذهب إلى طبيب العيون أم إلى طبيب الباطنية؟

بالطبع سيذهب إلى طبيب الباطنية، بل ليس لأي طبيب باطنية، وإنما سيتجه إلى الذي يحمل تخصصاً دقيقاً في باطنية الكلى.

ولو بحثنا عن منشأ هذا التصرف، سنجد بأن منشؤه العقل.

فاحترام التخصص من الأمور التي تتسق مع العقل الفطري، ولذا نجد المتعلم والمثقف والمفكر والإنسان البسيط في تعليمه ونحوهم، يقيمون وزناً للمتخصص في مختلف نواحي الحياة ولا يسعون إلى إسقاطه أو الاستغناء عنه.

ورجل الدين متخصص في مجاله، وليس بدعاً من القول، وهنا نسأل كيف لا نسمح لأنفسنا بالتجرؤ على تخصص الطبيب أو الصيدلاني أو المحلل المالي، ونتجرأ على تخصص رجل الشريعة؟

المعيار واحد، إذ نتوقف عن الإفتاء في الأمور الطبية لافتقارنا لأدوات الطبيب المعرفية.

وما ينطبق على الطبيب ينطبق أيضاً على رجل الدين، فهو المخول بالإفتاء، وليس المثقف لأنه يفتقر إلى أدوات الإفتاء.

قد يقول قائل: ما هو دور المثقف والمفكر والكاتب إذاً في هذا الجانب؟ أليس بإمكان المفكر أن يحل محل الفقيه المتخصص؟

ليس بالإمكان تجاهل دور المثقف والمفكر، فدوره كبير في إثارة التساؤلات المعرفية والفكرية والعقدية الجديدة، واختلاق الاستفهامات المحرجة والمحرمة والدخول في الحقول المليئة بالشبهات والإشكالات، ولكن هل بمقدوره تقديم الرؤى والحلول المتوافقة مع أحكام الشريعة وضوابطها؟

أعتقد بأن المثقف الواعي الواقعي يعي حدود دائرة عمله، فدائرة عمله لا تتجاوز نطاق إثارة التفكير واقتحام الدوائر المغلقة من قضايا الدين والفقه والشريعة، ويترك ما يتعلق بالاجتهاد لمن يملك أدوات الاستنباط.

دعونا نعود إلى مقولة الدكتور الطالبي، ونتأمل فيها تأملاً دقيقاً من خلال تقنية الكشف عما وراء النص، فستنجلي لنا دعوة في غاية الخطورة في تداعياتها، إذ ستخلق لنا ناشئة لا تقيم وزناً للمتخصص في الأمور الدينية، وستعم الفوضى الفكرية والمعرفية والعقدية، وضياع وحدة المعايير والمقاييس، إذ كل واحد منا له معيار منبثق من فهمه وتأويله.

وهنا ينقدح في الذهن تساؤل في غاية الأهمية، وهو: هل نمنح الفقيه أو رجل الشريعة صك العصمة لآرائه وفهمه للمسائل الدينية؟

آراء الفقيه ليست بمنأى عن الخطأ.

قد يقول قائل: مادامت آراء الفقيه عرضة للخطأ، فما المانع من وضعها على طاولة النقد؟

المتتبع للحوزات العلمية سيجد بأن آراء الفقهاء العلمية لا تسلم من النقد والإشكالية والمحاكمة العلمية الدقيقة من فقهاء أمثالهم يمتلكون أدوات الاستنباط وعلى إلمامة بالقواعد المنهجية العلمية المسلم بها.

وبالتالي آراؤهم قابلة للأخذ والرد ضمن إطار قواعد البحث العلمي.

وهناك دعوات بصوت مرتفع تنطلق الآن من الحوزات العلمية إلى مراجعة شاملة وواسعة في مختلف المجالات الدينية.

ولا ينبغي أن نستنكر مثل هذه الدعوات، باعتبار أن ثمة آراء فقهية قد تغيرت موجباتها الظرفية، فمن الطبيعي أن تتغير بتغير موجباتها.

وفي الختام أقول:

أن المثقف وظيفته إثارة المشكل والتساؤلات، والفقيه المتخصص الممتلك للأدوات وظيفته تشخيص المشكل، ومن ثم تقديم معالجته الاستنباطية.

ومتى ما تجاوز المثقف وظيفته وقع في المحذور، وهذا ما حدث للدكتور الطالبي، إذ أقحم نفسه في مجال الاستنباط، وهو يفتقر إلى أدواته، فأفتى بحلية البغاء وشرب الخمر، مما شكل صدمة للشعوب الإسلامية، وأثار سخط واستياء الناس عليه.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 2 / 2 / 2018م - 11:51 ص
أنا اسمي هذا العصر عصر الجهالة.
الكل يدعي المعرفة والعلم والكل بعيد في كل شيء.
الكل طبيب والكل مهندس والكل فقيه.
بمنأى عن الفقه ومن ناحية مادية كل شيء يحتاج إلى تخصص ومنه الفقه والدين.
شكرا لك