آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

زواجٌ قبل الحلم

في طفولة العمرِ أجوبُ شوارعَ المدائنِ العربية التي نزورها في شهر آب، درجة الحرارة تحيلُ كل شيءٍ كالجمر، في واجهةِ الدكاكينِ المغلقةِ وتحت ظلالها أنظرُ إلى دمى عرضِ الملابس النسائية بوجهٍ وشعرٍ جذاب، بعضها في ثيابِ الزفافِ البيضاء المطرزة، أسأل هل يمكن أن تكون صديقتي، هل يمكن أن تحبني، فتاً عربياً صغير السنِّ أسمرْ، هذه الدميةُ البيضاءُ ذاتَ العيونِ العسلية عندما تحل فيها روحٌ وأحاسيس!

تساؤلاتٌ طفوليةٌ بما تحمل من براءةٍ وعدم إدراك. سألتُ قريباً لي أكبرَ مني سناً فقال إنَّ ذاك ممكن وأكد لي حصوله بأنه عرف شخصاً زار أحد الاغنياءِ ودهش لأن من قَدَّمَ القهوةً كانت امرأةً غير محتشمة. تعجبَ الضيفُ وسأل المضيفَ عن السبب في جعل امرأةٍ تقوم بمثل هذا العمل. ضحك الرجلُ الغنيُ واستدعى المرأةَ حيث لم تكن سوى دميةٍ تقوم بأعمال البشر. انا وبقية الرجالِ كنا السبب في إعطاء الدمية الاسم اللاتيني manikin المسبوق بكلمةِ ”رجل“ عندما أحببناها، علماً أنها مؤنثةٌ في أغلبِ الاحيان.

تزوجتُ إمرأةً من البشر في التاسعةَ عشرةَ من العمر وحتى الآن ليس بالإمكان تزاوج الإنسانِ مع الدمية. اقرب اتصالٍ لي بانثى ليست من البشر كان عند شراء سيارةٍ فيها صوتُ امرأةٍ يُصدرُ أوامرَ مثل الاتصالِ بهاتف وبعض الواجباتِ البسيطة حال القيادة. في كل مرةٍ أحاول ان اجعل المرأةَ تستجيب لطلبي في الاتصال بإسمٍ في هاتفي تسألني بلكنتها الانكليزية إن كنتُ أريدُ الاتصالَ بفلان الذي يختلف اسمه تماماً عمن أردت. اكرر الطلبَ مراتٍ وهي تأبى أن تعرفَ المطلوب. أتذكر ماضي الانكليز وحاضرهم الذي لم ينفع أحداً وأستعمل يديَ في اختيار الاسم المطلوب.

نحن البشر دون احاسيسٍ لا نختلفُ كثيراً عن الدمية التي احببتها في العاشرة من عمري، ليس إلا ملابسَ معروضةً على إنسانٍ يثير الإعجابَ ويجري عليه ما يجري على البشر. لم تقتصر تجربةُ الانسانِ على معشوقةِ الصبي من أجل تحديد معايير السلامة في السياقة والحرائق والصناعة بكل أشكالها حتى أنها امتدت إلى إجراءِ تجارب نووية على هذه الدمى. أجرت الحكومة الأمريكية تجارب على مدنٍ صناعية في الخمسيناتِ من القرن الماضي لمعرفة التأثير الحراري للقذائف النووية في صحراءِ نيفادا في الولايات المتحدة الامريكية في عملية سُمِّيَتْ ”عتبة الباب“ أو ”Doorstep“.

حبذا لو اقتصرت التجاربُ على الأسلحة النووية وغيرها على الدمى ولم يكن للبشر فيها نصيب ولكن من المؤكد أن كثيراً من الدول استخدمت الانسانَ في حقول تجاربها لمعرفة مدى تأثير أنواعٍ من الاسلحة ومن الأفضل أن يكون الانسان الذي ليس لديها إحساسٌ تجاهه ولا وخزُ ضميرٍ بسبب لونه أوعرقه أو ما يميزه عمن يجري عليهِ التجارب. أدى الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي الذي شنته الولاياتُ المتحدة ضد الإمبراطوريةِ اليابانية في نهايةِ الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945م إلى مقتل مالا يقل عن 220000 من البشر وموت الكثير بعدها بسبب السرطاناتِ التي خلفتها الأشعة. ما يجعل الحروبَ في كل زمانٍ ذات قيمةٍ لمصنعي السلاحِ وتجارها هو معرفة قوتها التدميرية في الميدان وليس عن طريق المحاكاة مما يكون عاملَ إغراءٍ لمن يشتري السلاح وعملاً دؤوباً لمهندسي التطوير.

كنت مولعاً أشخصُ ببصري نحو دميتي الجميلة الخرساء خلف النوافذ أسندُ رأسي رجاءَ أن تلقي نظرةً نحوي، خيالٌ لا يأتي إلا من صبيٍ ولم أعرف حينها أن بينها وبين كثيرٍ من البشرِ الذين لا يرقى خيالهم وأحاسيسهم إلى السماءِ عُلْقَة أقوى مني، فلتذهب هي وهم إلى الجحيم...

مستشار أعلى هندسة بترول