آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

الحقيقة

رأى هارونُ الرشيد الذي كان يعد من أقوى واكبر حكام عصره سحابةً في السماء فقال: ”امطري حيث شئتِ، فإن خراجك لي“ ولما وافته المنيةُ قال: ”اللهم يامن لايزول ملكه ارحم من زال ملكه“. ينظر الإنسانُ بالعين اللا محدودة  فتتجلى وتنكشف الحقائقُ التي لم يكن يراها بحواسه الخمس الخائرة. ما قاله هارون الرشيد  في الثانيةِ، على سرير الموت، كان أصح منه في الأولى.

أتى مُلكُ هارون بعد مُلكِ سليمان الذي أقره الله ”قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ“ ولكن سليمانَ رأى الحقيقةَ المطلقة أيضاً ”فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ“.

تطلعُ الشمس كُلَّ يومٍ والفقراء لا يملكون خراجاً ولا يريدون سحاباً يمطر في ملكهم بعيداً عنهم ولن تستجاب دعوةُ أي منهم في مُلْكِ ما مَلَكَ سليمان . يكفي الفقير أن يتذكر ويفرح عندما يكون له بيتاً صغيراً وقطعةَ أرضٍ ربما بدت في نظره المحدود بلا حدود. كي نحرر أنفسنا من عبئ الفقر نزينه بعزةِ النفس وراحة الضمير لكن ليس الفقر سوى الكتلة الضاغطة التي تخلخل كيانَ الإنسانية وتتلاعب بقيمها. الفقر هو المجرمُ الذي يطلق النارَ على أماني الفقراء ويرديها صرعى قبل أن تشب وتكون حقائق. 

يقول الشافعي:

أمطري لؤلؤاً جبالَ سرنديبَ
وَفِيضي آبارَ تكرورَ تِبْرَا
أَنَا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أعْدَمُ قُوتاً
وَإذا متّ لَسْتُ أعْدَمُ قَبْرَا
همتي همَّةُ الملوكِ ونفسي
نَفْسُ حُرٍّ تَرَى الْمَذَلَّة َ كُفْرَا
وإذا ما قنعتُ بالقوتِ عمري
فَلِمَاذَا أزورُ زَيْداً وَعَمْرا

لن يصيب الفقيرَ أيٌّ من المطرينِ ومن الراجح ألا تصيبه حالة العدم أواللا وجود لما يملك أيضاً. كل ما يطمح فيه ألا تمطرَ السماء وتنحدر صخورُ جبال سرنديب العالية  وتطمرهُ  أو تفيض آبار تكرور التي كان الذهب الوفير من الأسباب الرئيسية لقدوم المستعمر الأوربي الذي نهب خيراتِ أفريقيا وتغرقه قبل أن يحقق أياً من أحلامه المحدودة. قد يجد الفقيرُ قبراً صغيراً بعد موته يضم جسده الهزيل لكنه في حياته يحتاج جداراً يحميه من الريح وسقفاً يمنع الحر والبرد عنه ويداً تنقذه من طوفان الغرق.

في ربيع العمر اشتريتُ قطعة ارضٍ يأتي العمال ليعمروها وكم أكونُ أحمقاً عندما انهى هذا وآمرُ ذاك وتختلط خطوط اللا متناهي بتلك القريبة مني حيث لا مطر ولا خراج ولا لؤلؤاً ولكني أتظاهر بملكِ ما لا يحد. أيها الأغنياء والأباطرة، ملك هارونُ ومضى وملك سليمان ومضى. وجد خدمهُ جسدهُ خاوياً من الحياةِ لا يستطيع أن يأمرهم أو ينهاهم وكم تمنوا أن كانوا يعلمونَ الغيبَ كي يتحرروا من العمل الشاق تحت ملكه. تمتعوا بما ملكتم من الخيالِ والسرابِ واعطوا من لم يكن له منه حظاً.

أيها الفقراءُ بقي لكم أن تغنموا اللامحدود الذي طلبه سليمان وسأل الربَّ أن يعطيه قبل الملك ”رَبِّ اغْفِرْ لِي“. وبقي لكم أن تلبسوا حلي الفرح والقناعة. قال علي ”استغنِ عمن شئتَ تكن نظيره، واحتج إلى من شئتَ تكن أسيره، وأحسن إلى من شئتَ تكن أميره“. اعلموا أن ليس كل غنيٍ سليم وليس كل فقيرٍ موجوع.

مستشار أعلى هندسة بترول