الصورة التي تعادل ألف خطيئة!! 1/2
أنا أثير السادة، أملك ككل الناس كاميرا في يدي، وأخرى في جيبي، أهش بها على كل حدث مثير أو ملفت حولي، ولي فيها مآرب أخرى.
علاقتي بالصحافة مد وجزر، وفي واحدة من لحظات المد كانت الصحف المرموقة وغير المرموقة تنشر لي بين حين وآخر بعض الصور، يدرجونها ضمن المواضيع التي تناسبها، أحيانا يرد إسمي أسفل الصورة، وأحيانا يسقط سهوا، لكنهم لا يدفعون مقابلا في كل الأحوال.. واحدة من الصور الشهيرة التي نشرتها الصحيفة لي كانت لصبيين يتعاركان في ظهيرة رمضان، كانا في لحظة مزاح وأنا اتهيئأ لالتقاط صورة لهما، لكن المزاح انقلب إلى جد، وانقلبت الصورة إلى مادة مغرية للصحيفة، فتارة تدرجها ضمن عنوان عنف الاطفال، وتارة التفكك الأسري، وتارة فشل المفاوضات النووية، وأشياء أخرى لا يمكن تخيلها…كبر الأطفال ولا أظن أنهم مازالوا يتعاركون إلا أن الصحيفة المرموقة مازلت تقول لنا بأن زيدا قد ضرب عمرا.
كثيرة هي الصور التي تطير من موقع لآخر فتصبح بقدرة قادر عنوانا لحدث مختلف.. في واحدة من المرات نشرت صورة لاثنين من كبار السن، كلاهما يمسك يد الثاني بقوة، والقصة التي شاهدتها تتخلص بأنهما في عراك مستمر كل يوم، وساعة يلتقيان لا يعف أحدهما لسانه عن السب، وشتم كل واحد منهما الآخر…وهذه تسليتهم اليومية…مجموعة فوتغرافية ممن ولدت والحنين إلى الماضي يدغدغ مشاعرها طارت بهذه الصورة وكتبت وصفا تحتها: مسنان يعبران عن حرارة اللقاء!.
لو كنت صورة، معلقة في جدار، أو مدرجة في كتاب، أو ملحقة بأثاث مكتب، لاشتيكت من ظلم الناس وسلوكهم اللا أخلاقي معها، يلصقون الصورة بكل شيء، يسلبونها عفتها وهم يخرجونها من الملفات وينشرونها على الملأ، يقطعون أوصالها، كما يطرزون لها أوصافها.
تعالوا نتخيل سويا مشهدا اعتياديا، يتكرر كل يوم، من أول لحظة استيقاظنا وحتى خلودنا إلى النوم.. تعالوا نرصد سلوكياتنا التي نمارسها بشكل تلقائي، ولا واعي أحيانا.. في أول الصباح، وبعد مد الأيدي والأرجل لاستعادة النشاط، وربما قبل ذلك، سنجد بضعة رسائل في هاتفنا الجوال، سنحرص على مطالعتها على الفور، لاكتشاف ما يهب الأصدقاء من أشياء جديدة ومثيرة، لنجد بأن أحدهم قد أرسل صورة جميلة وقد كتب عليها صباح الخير.. لا نعلم شيئا عن صانع الصورة تلك، ولا نعتقد بأنه من واجبنا السؤال عن مصدر الصورة وصاحبها وعلاقتها بصباح الخير.. هي صورة تبعث على المتعة وكفى، ما يجعل المرسل والمستقبل يتواطأ على قبولها دون سؤال، ومباشرة البحث عن صورة مشابهة لإرسالها كجواب.
بعدها تأخذك الرغبة لمطالعة الأخبار في الصحف اليومية، فتقلبها صفحة صفحة، عنوانا عنوانا، من المؤكد بأن عينيك ستقع على الكثير من الصور، صور مسئولين في ابتسامات نادرة، وبجوارها صور ضحايا، بعضها صارخة، صادمة، وكلما قلبت أكثر، وجدت صورا أكثر، ربما صورة صبي يلهو بالشارع وحديث عن سوء تربية الأطفال، أوربما صورة لعمالة أجنبية وقد كتب أسفل منها تعليق يحذر منهم.. وقد تقع عينك على صورة أطفال في إعلان لواحدة من محلات الوجبات السريعة.. هذه صورة مألوفة ومكرروة حد الملل يوميا، لذلك لا نصرف وقتا للسؤال: هل حقاً تمثل تلك الصور التي نشاهدها وصفا دقيقا للحرب مثلا؟ هل يليق نشر وصر الضحايا بنحو صادم؟ من أعطى الصحيفة الإذن لنشر صور الطفل إياه؟ وهل من المقبول أن تنشر صورة أي أحد من الناس وإلحاقها بموضوع لا صلة له، كأن تنشر صورة عامل وافد يسترح بعد عمل مضني، لنخبر الناس عن خطر العمالة السائبة مثلا؟ أليس في ذلك رمي لهذا العامل بالتهمة؟ وهل من اللائق أن تستهدف الإعلانات التجارية لمطاعم الوجبات السريعة الأطفال الصغار؟
ستغلق الصحيفة وتعود لتصفح حساباتك في مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعية، هناك سيحاصرك حتما طوفان من الصور، بعضها مأخوذة من مواقع الانترنت، وبعضها من تصوير أصحابها، تظهر فيها أماكن وشخصيات عانقتها الكاميرا، وربما جربت أيضا أن تشارك الآخرين صورة لصورة شاهدتها في مكان ما، أو أن تأخذ لنفسك صورة بجوار مبنى أو محل، أو مكتبك في العمل، وباقي الاستخدامات التي جلبتها أدوات التواصل اليوم…كل هذه الصور مرة أخرى مالوفة، وهي كشرب الماء في تعبيرنا، حتى أن أحدا لا يثيره السؤال عن ملكية أي صورة، وأحقية التقاط صورة شخص أو مكان ما، ولا عن لياقة التقاط صورة لهذا الشأن الشخصي أو ذاك، أو حدث يجري في الفضاء العام، فنحن في دوامة كبيرة تلتهم الصور يوميا ولا تشبع، دوامة تعيد تدوير الصور دون أدنى سؤال عن كل الذي أثرناه أعلاه.
فهل نحن حقا أخلاقيون في تعاطينا مع الصورة؟