حبيب القمارة.. حبيب الكل
وانتقل الى رحمة الله الحاج حبيب القمارة، هذا الرجل الذي يعرفه الكل في جزيرة تاروت، ويتندرون بمواقفه الجميلة معهم، والرائعة التي تدل على طيب معدنه وحسن معشره..
وفي الواقع إن هذا الرجل علامة بارزة بين أهالي جزيرة تاروت، والكل لديه شيء من الذكريات والمواقف الجميلة مع هذا الرجل الفريد من نوعه، الذي بفقده فقدنا أبا حنونا، ورجلا طيّبا، يتعامل مع الناس بكل أريحية وشفافية.
الحاج حبيب القمارة «ابوعلي» لمن لا يعرفه وهم قلة في وجهة نظري كان أحد اساتذة البناء في جزيرة تاروت، وذلك في الفترة التي كانت البيوت والمنازل يتم تصميمها وبناؤها من قبل كفاءات وطنية على مستوى عال من الكفاءة.. فهذا الرجل احتفظ بهويته كأستاذ في البناء القديم، المستحدث، لكنه يسير بطريقة تعتمد الجودة والقوة حتى انه بنى منزلا في الدخل المحدود وقال: ”هذا البيت سوف يكون شهادة على كل بيوت المحدود، كلها سوف تنهدم وسوف يبقى هذا المنزل“، طبعا قالها بطريقته المميزة التي تؤكد ثقته بنفسه، وكفاءته في هذا الشأن.. بالتالي فهو شاهد على ذلك العصر الذي انقرض، وصرنا لا نملك من البنائين أحدا. رحم الله البناء، والبنّائين، وأبرزهم وشيخهم الحاج حبيب القمارة.
والأمر الآخر، والسمة البارزة لهذا الرجل أنه ”متدين“ ويحتاط لدينه في كثير من الأشياء، فهو على سبيل المثال لا يأكل أي شيء، ويركز على الأكل الطازج النظيف، فذات مرة وحسب نقل الذين عملوا معه ان صاحب المنزل سأله وهو الاستاذ عن الفطور وماذا يرغبون، فقال له ابوعلي: ”جيب الموجود عندك، لبن، تمر، عصيد، أي شي“.. قام واحد من العمّال وكان يريد أن يلطف الجو مع الاستاذ، فقال له: ”ما عليك منه، جيب لينا فطور عدل، جيب بنات بتر، وجبن وإذا عندك بيرة زين“، وكلّها مأكولات غير مستساغة وغير محببة عند الحاج حبيب فالتفت إليه بلغة لا تخلوا من طرافة وحسم: ”انت يا واش، خاف ربك، هذا اللي قلته كله ما هو أكل، هذا من مخلّفات الاجانب، انت ما تفتهم!!“، والموقف انتهى والكل سعيد.
ومثل هذه المواقف كثيرة، وكان رده على من ”يناوشه“ أو يمزح معه حازما وبلغة أبوية طريفة، تجعل من يعرفه ويعمل معه يحبه، ذات مرة أحدهم قال: ”ليش الواحد ينجب أولاد كثير، يقتصر على واحد أو اثنين“، رد عليه الحاج حبيب بقوله: ”أنت ما تفتهم، المفروض الواحد ينجب اولاد، حتى يبنون بيوت المؤمنين“.
وبالنسبة لي فلي مواقف عديدة مع هذا الرجل، وقد اجريت معه حوارا مفصلا نشرته في جريدة اليوم عن قصته في البناء والحياة، حتى أنه قال لي: ”انت يحتاج لك سنين حتى تفهم درس البناء، عليك ان تتعلم المسائل الشرعية احسن لك“، وبعد نشر اللقاء مع صورة قديمة له اخذتها من ابنه العزيز محمد «ابومصطفى»، جاءه الأخ العزيز محمد الشيوخ وأعطاه الجريدة، وقال له: ”تعرف هذي الصورة لمن؟“، فقال: ”لا، لا هذا من؟“، قال له: ”هذا أنت ابوعلي“، فقال: ”هذا صحيح، هذا أنا، منه المجنون اللي نشرها“، قال له: ”من اللي زارك قبل يومين“ فرد عليه بطريقته الخاصة: ”هذا بن عيد.. بن عيد.. الشيطان“.
وفي كل مرّة يقابلني يتكلم معي بالإنجليزي «المكسّر طبعا» فيقول لي ”قود فري قود“، وحين يسلّم علي يضغط بيده علي، فأتلوّى من الألم ”، فيستلمني بالتعليق على ضعفي وانعدام القوة لدى الشباب، معللا ذلك بأننا نأكل“ بنات بتر وجام"، وهذه عنده ليست مأكولات وإنما هي من مخلّفات الأجانب، وما يأكلها عاقل.
وأنا بدوري لا أتركه، أقول له بأن الاساتذة في البناء قد حققوا الكثير من الإنجازات، وبنوع من الإثارة الطريفة اقول له: ”هؤلاء الناس تجاوزوا حجي حبيب، وبنوا منازل اكثر وأحسن“ فأورد له اسم أحد الاساتذة الذي يراه الحاج حبيب واحدا من تلاميذه، فما يكون منه سوى أن يورد لي أسماء البيوت التي بناها منذ أكثر من عشرين عاما، ولم تزل قائمة تقاوم عوامل التعرية، وتنتهي اللقاءات معه بالود والابتسامة.
وذات مرة يعمل في احد البيوت، وسمع الجميع صوت طائرة في السماء، وهذا أمر عادي، ان تمر الطائرة ويسمع الناس صوتها، فقام أحدهم فرفع حجرا من الأرض ورمى بها تلك الطائرة، ولا أحد يتصور أن هذه الحصاة سوف تصل إلى تلك لطائرة التي تبعد عن الأرض مئات الكيلومترات، الحاج حبيب التفت إلى ذلك الشاب وقال له: ”ياواش لا تعمل لينا مشاكل.. أنت مجنون!!“، ولم يكن من الحضور إلا أن ارتموا من الضحك.
رحم الله الحاج حبيب القمارة الذي لم يكن شخصا عاديا، وإنما كان مثالا للإنسان النشط الفعّال، قضى سنوات عمره ”يبني بيوت المؤمنين“، هذه العبارة المحببة لديه، إلى أن اختاره الله نقي الثوب، فهو حبيب وله من اسمه نصيب.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفسيح من جناته.