سابحون في الفراغ!
”إلى محمد أبو السعود.. من أَلِفنا ابتسامته وشغبه“
يحضرني الشاعر اللبناني وديع سعادة، وتحديدا ديوانه ”غبار“، كلما لامست العدم، أو وجدتني وجها لوجه أمام السديم، يتعثر بصري أمام غشاوته اللآمتناهية!.
كلما وجدت الإطار معلقا وقد سقطت الصورة، والبياضُ الثقيل يؤثث المكان بحضور بغيظ ورتيب. حينها أحدق بحنق في بلادة الإطار المتباهي بثباته، وبأنه السمُ الذي يهتكُ بصر من ينظر إليه.
ساعتها، تكون الأرض غير الأرض، والسماء ضربٌ من الاحتمالات غير المرحب بها. هي بالتحديد، قفرٌ يبسٌ وموجع.
كل ذلك يجعلك توقن أن ”ما كان الأرضَ لا يشبهنا. إنه نقيضنا ونحن أنقاضه“، كما كتب سعادة. بل أكثر من ذلك فنحن ”لا نكمل حياة الأرض بل حياة غبارنا. لا نكمل حياة بل موتًا“.
في نصه الشعري ”الغباريون“ يرفع الحرف وديع سعادة عن أي زخرفة أو بلاغة كاذبة. يضعنا أمام المشهد الفعلي الذي لا نريد أن نفتح قلوبنا عليه، وهو أننا ”جئنا لنرافق الغبار في هبوبه الأخير، نحمله إلى مثواه، وننام معه“.
الغبار الذي لن يصير يوما تِبراً، هو ما نمسكه في أكفنا طوال أيامنا التي نخشى عليها أن تهرب من بين ”فُروجِ الأصابع“.
لم نكن في يوم إلا ريحا تهبُ، نخباً يحتسى، ورداً يغري الحسناوات بما به من سحر، ابتسامات متهتكة، نميمة جميلة، سهرات تتقافز فيها أحلام لا حد لها، وخابية لم تفرغ فجراً من شراب!.
كنا ندوزن وتر عود سومري قديم، نرفع موسيقاه عالية، بشجاعة من لا يخشى ما حوله من عصى غليظة وعقولٍ صماء.
كنا نرفع قلوبنا ونضعها على الدروع، مقدمين أرواحنا بعشق أحيانا، وبلادة أوقاتا كثيرة، وبجنون الفتى الذي يظن الكون رهن بنانه.
كنا، شامخين، قمما عالية، لم ننتبه أننا كلما ارتفعنا في جبال العمر، كلما لامسنا الثلج والجليد والبياض المفزع!.
الريح شديدة هناك، والنور سيف قاطع، والفراغ لا ترى له حدا، أو تعرف له حكاية خبرها الكثيرون طوال قرون وقرون مضت، إلا أن أحدا لم يتجرأ ويعود ليروي لنا القصة كما هي، ليخبرنا لماذا انمحت الصورة، وبقي الإطار يبتلعنا واحدا تلو الآخر!.