آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

حوض الذاكرة

في بداية الالتحاق بشركة أرامكو، صيف عام 1979م، كان المهندس المشرف على تدريبي ”جون ماكللن“ رجلٌ أمريكي في الخمسيناتِ من عمره ويبدو أن ذاكرته آخذةٌ في الضعف فكان من عادته تدوين اسمِ كلَّ من يلقاه وما يمر عليه من أحداثٍ تخصه أو تخص مسؤولياته تجاه عمله. كانت هذه العادة طريفةً ولكنه لم يكن يتذكر أن يعطيني الإرشادات التي أحتاجها عندما يرسلني للعمل في البحر ولم تكن لغتي الإنجليزية تسمح لي بمعرفة متطلبات الرحلة والعمل أو الإلحاح عليه بالسؤال. إجابتي التي تكاد تتكرر عند كل سؤال يسألني ”ليس بعد“.

تبدأ رحلة الطائرة المروحية من خارجِ مقر مبنى الإدارة في رأس تنورة حيث تنطلق لتهبطَ على ظهر إحدى منصاتِ الحفر التي كانت تبدو لي حينها جزيرةً كبيرة وسط الخليج ومخيفة بما تحتويه من أدوات وعمالٍ من مختلف البلدان وأنا صبي بوزن ستين كيلو غرام. يعجز المُرَحِّل عن معرفة وجهتيْ ويصطحبنيْ لحجرةِ ناظر المنصة الذي يكونُ عادةً صعب المراس، سريعاً في الكلام ويستدعي لي قارباً بحرياً يقوم أحد العمال بإنزالي في سلةٍ تتدلى من أحد الرافعاتِ إلى سطح القارب.

يأخذني القارب بعدها إلى أحد البوارجِ التي تستخدمها الشركة  في مهمات صيانة آبار النفط ويكون جون قد سبقني إليها أو يكون على أخرى وانتقل إليه. في كثير من الأحيان يكون العمال من مناطق القطيف الذين كانوا يشكلون غالبية الموظفين في ذلك النوع من المهمات تلك الأيام فتزول آلامُ الرحلةِ سريعاً.

يبدأ العمل باكراً وينتهي بحلول المساء. لا مكان سوى مكان العمل ويصبح الليل طويلاً والوقت وافراً، نسمرُ تحت ضوءِ القمر وما يجود به الفضاءُ الواسع من هواءٍ رقيق. البحر يهيجُ أحياناً كنفس العاشق ويهدأ يفكر كيف غزاه القمر الذي انعكس ضوءه دون رضاه طوراً وخيط الصيد ينتظر ما يعلق به من وجبة الغد. نجلس مع الناظر فوق دكةٍ خلفية نحوطهُ وفي كثير من الأحيان يكون من موظفي الشركة القدامى فلا بد أنه ذهب في رحلة عملٍ لأمريكا لمدة ما. لا يلبث أن يقص علينا مغامراته وما مر به من مواقف وكنتُ أستمعُ لهم بكل شوقٍ وترقب لأنني كنت سأذهب للدراسة في أمريكا بعد نهاية  عام 1979م. كانت حكاياهم مبلولةً وطريةً بأماكنَ وأشياءَ وعواطفَ من العالم البعيد المجهول.

عدت من الدراسة عام 1984م، رأيت جون  وزرته في منزله أنا وزوجتي وأهديناهُ هديةً ترمز إلى شكري لما علمنيه. أعاد جون السؤال عن اسمي مرةً أخرى ودونه في مذكراته! لعل ذاكرة الانسان تشبه الحوض، كُلٌّ على قدره، فالبعضُ لا يلبث أن تمتلئَ ذاكرتهُ في مدةٍ محدودة إن اعتراهُ عارض والبعض لا تزالُ بها سعةٌ وإن مر به كثيرٌ من الحوادث.

مهمةٌ كانت سهلةً أرتعش من الخوف حينها وتبقى الذكريات. يصعب القيام بالأمر عندما لا تكون أسهم الإرشاد ومعالم الطريق واضحة ومفهومة. مضت الذكريات ومضى بعض من فيها ولكن بقي البحر والقمر يملكان مسرح الأحلام والحقيقة. يطلعانِ كل يوم ويزخرانِ بالطاقة والجمال ويملكانِ أسرار الحياة.

مستشار أعلى هندسة بترول