من يبيعُ العمرَ من يبيع القَدَرْ
نصحو كل صباحٍ وننظر أننا بخير. نحمد اللهَ ونعد العمر، عشراتِ الآلاف من الأيام ومئاتِ الآلاف من الساعات وعشراتِ الملايين من الدقائق. كلها مرت ولن تعود. في كل سيرنا الحركي في الحياةِ نكونُ أقرب للوصولِ للهدف وأبعدَ من نقطة الانطلاق، ذاك لأن أحداثية الزمن موجبةٌ في كل الاحوال.
نذكر في تلك الأرقام ما اخضر منها وما طاب ونقول أين يباع العمر؟ أين يباع القدر؟ من يبيعني المزيد من العمر أو إبقاء القدر على صافيهِ خالياً من الكدر. نذكر ما اسود منها وما مر طعمه ونقول أين سوق القدر؟ أين سُوق العمر؟ هل أستطيع مبادلةَ أو بيعَ ما أملك أو حتى رميه لمن يريده ولو بثمنٍ بخس!
لو كانت هناك سوقٌ هل يشتري الأغنياءُ والملوكُ كل الساعاتِ والخلود وهل يبيع الفقراءُ الصعاليكُ كل أعمارهم لغيرهم. ربما لا ذا ولا ذاك ولكن كل من يشتري سيعاود نفس الأفعال ويحيا نفس الحياة. سنواتُ العمر ليست سوى أيامٍ مكررةٍ نجزم فيها كل يومٍ أننا لن نعود للأمس لكننا نعود ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
إنْ في السوق يباع العمر والقدر للإنسانية جمعاء حتماً ستكرر خطاياها من الحروب والدمار والجور والإعمار والإبداع والتسلط والإفقار والمشاركة والرقي. نأتي إلى هذه الحياة أفراداً وجماعاتٍ ليس بخيارنا، نبكي وتملأ أحداقنا الدموع لعلمنا أنها تعيسةٌ مهما بدت. نستسيغُ ذلك الشقاء نغني ونملأها بأهازيجِ الفرح أو نظل فقراءَ صعاليكَ لكننا لا نمل من ملءِ أوعيتنا من نفس المنبع أبد الآبدين.
هل يبقى هذا القَدَرُ والعمر يفنينا ويسقطنا مثل أوراق الشجر ليوصلنا والكون إلى التكاملِ والنضوج حيث يكون في موتنا الحياة أم نسير في الليلِ ننتظر الصباحَ الذي لا يأتي. لا يختلف البشر في التكامل عن باقي الحياة. تشتعل الحرائقُ في الأشجارِ والغاباتِ وتنطلق ملايينُ البذور التي يحملها الهواءُ الساخنُ بفعل النيران والتي تقوم بتشكيل غاباتٍ أخرى في مساحاتٍ جديدة تكون أقوى وأصلبَ وأكثر تنوعاً وبهذا تنشأ حياةٌ جديدةٌ للبشر مع أماكن نمو الأشجار.
ما يعقد الوصول إلى هذا التكامل السريع هو خيار الإنسان التعيس. عندما تنبت البذرة وتصبح شجرةً ليس لها من خيارٍ في الحياة سوى ما نبتت لتقوم به من ظل وثمر وقبسةٍ من الجمال. وليس خيار للماء سوى اللمعان والجري في الجداول والسقوط من العلو لإحياء الشجر والبشر. بينما للإنسانِ من الحرية ما يكفيه ليصل أعالي المجد والعظمة ويتسافل مع الماديات ويشعل الدنيا فرحاً وضحكاً ويغرق كل الكون في الأحزان.
الإنسان هو الكائن العظيم الذي يسخر من هذا الكون، يولد في صخبٍ ويعيش في صخبٍ ويموت في صخب ويحزن على ما جنت يداه. بينما ملايين المخلوقات تمر في الكون وتعانق الحياة بكل هدوءٍ وطمأنينة لا يعكر صفوها سوى الجور الذي ينالها من الإنسان يوصد أبواب الحياة عليها أينما استطاع.
اقترب أيها الإنسان من الجمال إقترب من الكمال. استهزأ بالموتِ والفناء واستبدل الضياء بالظلام. ليس هناك من سوقٍ للقدر وليس هناك من سوقٍ للأعمار ولن تشتري ما فات ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾.