المواطنة والطائفية
يعبِّر أبو عثمان الجاحظ عن الوطن في رسالته «الحنين إلى الأوطان» فيقول: ”إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه...، فطرة الرجل معجونة بحب الوطن“.
والقرآن الكريم يشير إلى المعنى المتجذر في علاقة ارتباط الإنسان بوطنه «دياره» فيقول الله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ «النساء: 66»، وكان يقال: ”لولا حب الناس الأوطان لخسرت البلدان“.
ومن كمال التزامك لوطنك أن تكون مخلصاً ووفياً لهذه الأرض التي عشت فيها وللوطن الذي احتضنك؛ لأنَّ الأرض وطن يعيش معك قضيتك ورسالتك، فيتم التعاطي معه كعنوان قائم بذاته، لا يحتمل الجدل في مسألة الدفاع عنه أمام كلِّ طامع.
فمسألة «المواطنة» هي أساس علاقة الإنسان بنظام الدولة، بغض النظر عن الخصوصيات الدينية والعرقية لكل طائفة. وكل فرد من أفراد الدولة يتساوى مع الفرد الآخر في «المواطنة» وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، ولذا فإنَّ التلاعب بالأوراق الطائفية ينسف معنى المواطنة ويقتلها في الصميم ليحوِّل الوطن إلى أفراد تتحكم بهم العصبيات الطائفية بدلاً من أن تجمعهم الروح الوطنية وسقف المواطنة.
ولإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تحتاج الدولة إلى ثورة حقيقية على المستوى الثقافي، وعلى مستوى تغيير الذهنية النمطية، ليكون الناس على بيّنة حيال الصورة الحقيقية للدولة الحديثة التي يعيش فيها المواطن وفق مبدأ الحقوق والواجبات.
إنَّ ثمة من لا يريد أن يقتنع بأنَّ المواطنة «محايدة»، ليست مذهبية أو دينية، وليست قبيلة أو أفراد، وليست عرقية أو إثنية، بل هي التي تعزز ما هو مشترك بين مكوِّنات المجتمع الواحد على أساس المصلحة العليا.
فالمواطنة رابطة عضوية تاريخية مصيرية واسعة، تؤسس على الاعتراف المتبادل بوجود الآخر واعتراف الكل بالجزء والجزء بالكل..
لقد تكوّن بالمدينة المنورة، وتحت قيادة الرسول ﷺ، مجتمع قائم على أساس دستوري مكتوب أو ما كان يعرف آنئذ ب «وثيقة المدينة»، والمجتمع آنذاك يتكون من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة، وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية، وهي المرادف لكلمة ”المواطنين“ بحسب المصطلح المعاصر، فلا وجه للتفريق بين مدلول الرعايا والمواطنين في المجتمع الإسلامي لأنهم سواسية أمام القانون.
فإذا كانت كلمة «المواطنة» تنطلق من معنى الانتماء للوطن، وما يترتّب على هذا الانتماء من التزامات متبادلة في ما يقدمه الإنسان من نفسه للأرض التي حملته واتّسعت لمتطلباته وحاجاته الجسدية والفكرية وغيرها، وما يترتّب على السلطة التي تتحمل المسؤولية عن صون هذه الأرض من مسؤوليات حيال هذا الإنسان، فإنّ الالتزام هنا أكبر من أن يكون احتضاناً للأرض فقط، بل ينطلق في الأبعاد التي تجسدها كل العناوين التي تحملها كلمة «وطن».
وعلينا أن نلتفت إلى شيء له أهميته حينما تكون فئة ما مضطهدة فإنَّ إحساسها بالمواطنة يضعف ويقل، لا لأنها خارج منطق المواطنة، بل لأنَّ المواطنة هي حقوق وواجبات. ومتى أصبحت مجرد واجبات، أصبح الأمر لا يطاق. حينئذ يمكن للمحرومين حيث وكيفما كانوا أن يكونوا خارج منطق المواطنة.
ولذلك، فإنّ قيمة الوطن أو قيمة الأرض في المفهوم الإسلامي هي بمقدار ما تؤمّن للإنسان من فسحة للسكن المادي أو الروحي، وبمقدار ما تستطيع أن تعطيه من حرية تمكّنه من تقديم فكره للآخرين وتؤهّله لصياغة مستقبل رائد لنفسه ولبلده، ومن هنا كانت كلمة الإمام علي : ”لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ“، أي بمعنى ما حمل فكرك وأعطاك الحرِّية في تأدية واجباتك ونيل حقوقك.
إننا في أمسّ الحاجة للارتفاع من حضيض الاختلافات العصبية المذهبية غير المبنية على أسس فكرية وثقافية إلى فضاء الحوار الوطني الجامع، والقبول بالتنوع الاجتماعي الذي يقود الى التفاهم من خلال الحوار البنّاء الذي يعترف منذ البداية بخصوصية الآخر ليمهد للتفاهم العام حول كيفية بناء الوطن ودولة الإنسان والمجتمع الكبير وفق أسس الحماية الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية.