آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 4:17 م

دروسٌ الحياةِ من والدي والبحر

أحد الأعمالِ التي عمل فيها والدي رحمه الله كانت البحر وصيد السمك فيما يسمى سابقاً ”الحضره“ ولعل القليل من الجيل المعاصر لديه فكرةٌ عما تعنيه هذه التسمية وهي عبارة عن بناءٍ من جريدِ النخلِ بطريقةٍ خاصةٍ في البحر يجمعُ السمكَ في مكانٍ يسمى السِرّْ عبر جدارين من جريد النخل يسميا اليد وذلك عندما يرجع السمكُ الى عمقِ البحرِ في الجزر.

في صغري كنت دائماً ارغب في الذهاب معه وهو يصدني ولعله حرصاً على سلامتي ولأن اوقاتِ البحر مرتبطةٌ بالمد والجزر ولا تناسب مقاومتي ولكي لا يشتغل بي عن عمله في جلبِ الرزق لعياله. وعندما يسعفني الحظ واذهب معه كنّا ننطلق من المنزل الى نقطة تجمعٍ تسمى المضوي وهي عبارة عن مكانٍ يستريح فيه البحَّارة قبل النزولِ الى البحر، يقدرون المخاطرَ المتعلقة بتلك الرحلة ويتجاذبون الحديثَ عما اصطاد بعضهم وغيره من الأخبار. يظهر من تسمية المكان أنه مضاءٌ بطريقةٍ يلحظها البحَّارةُ عند الرجوع ليستضيئون بنوره حتى لا يتيهوا ويهلكوا.

بعد ذلك يذهب كل على حِدَهْ لطلب رزقه فأحياناً يكون السر مليئاً بما يجود به البحر وأحياناً تشحُ الدنيا حتى بسمكةٍ واحدةٍ ويرجع البحارُ خاليَ الوفاض والاسوء عندما لا يكون هناك سمكٌ وقد تخرب الحضرةُ بسبب الموج والرياح.

في طريق العودة يتوقف البحَّارةُ  في المضوي للإطمئنانِ على بعضهم والأستراحة وقد يكون غبطةَ بعضهم بما جمع أو تسليةَ بعضهم بما فاته.

بعد ما اشتد عودي كنت اقرأ الكثير من الدروس في رحلة البحر الشاقة وللاختصار اقتصرُ على التالي:

أولاً: لا بد من معْلَم أو شخصٍ في الحياة يقتدي به من ليسَ له علمٌ ولا بد لذلك المعْلَم من التميز وإلا فقد البحارُ غير البصيرِ طريقه ومن ثم يهلك وهو الحاصل الآن حيث تكثر الاضواء وكلها خافتةٌ ولا تشكل معلماً إلا بعد التدقيق الصعب.

ثانياً: لا بد من تحديد الهدفِ بدقةٍ كالحضرةِ في عرض البحر وتحديدِ نقطة الانطلاق والعودة.

ثالثاً: رحلة البحر كالحياةِ محفوفةٌ بالمخاطر ولكن كان لا بد لوالدي من القيام بها وبكل اصرارٍ كل يوم وأحيانا الجائزة كبيرةٌ وأحياناً لا تذكر.

رابعاً: لا بد من العمل الجماعي بقدر المستطاع ولو بمقدار جلسة البحارة في المضوي وهي الجزءُ الأكثرُ متعةً في الرحلةِ على الأقل كانت بالنسبة لي.

مستشار أعلى هندسة بترول