أمتنا بين القطيعة والتجديد
لاقت قضية التجديد في الفكر الإسلامي اهتماما كبيرا بين الباحثين والكتاب، منذ أوائل القرن الماضي وما بعده؛ باعتبار التجديد مسألة تتعلق بنهضة الأمة، والانطلاق من الجمود والتخلف، خصوصاً بعد صدمة التعرف على نهضة الغرب وتقدمه والفارق الضخم بيننا وبينه، وهذا ما جعل العديد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين، يتصدون لقضية التجديد، بمسميات كثيرة؛ منها: إصلاح الفكر الإسلامي، أو إحياء الفكر الإسلامي، أو تجديد التفكير الديني، وكلها تتعلق بتجديد الفكر الإسلامي، بما يؤسس لنهضة الأمة وتقدمها، وليس القطيعة معه.
ومن الباحثين والمفكرين العرب الذين اهتموا اهتماماً كبيراً بقضية الاجتهاد والتجديد في الفكرالإسلامي الباحث والمفكر العربي زكي الميلاد، وله العديد من المؤلفات التي طرحت التجديد؛ ومن هذه الكتب كتاب ”الإسلام والتجديد.. كيف يتجدد الفكر الإسلامي؟“.
ويرى الباحث في مقدمة هذا الكتاب أن اهتمامه بقضية التجديد بدأت بكتاب قبل ذلك ”الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد“، لكنه رأى بعد عقد من الزمان أن هذا الطرح يحتاج إعادة إلى الإضافة بما يسهم في توسيع الفكرة المطروحة من خلال دراسة المؤلفات والأفكار التي كتبت عن تجديد الفكر الإسلامي؛ من خلال النقد والتقييم لما طرح في قضية التجديد، ومن هؤلاء الذين تحدث عن رؤيتهم عن التجديد، من أمثال المفكر الهندي محمد إقبال، وهاملتون جيب، ومحمد البهي، وأمين الخولي، وحسن الترابي، ثم تحدث الميلاد عن التحولات التجديدية في القرن الماضي، ومن هؤلاء المفكر العربي د. أحمد كمال أبو المجد من خلال كتابه ”التجديد في الإسلام“؛ إذ يرى د. أبو المجد ”ضرورة المواجهة الصريحة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي، وفي تقديره أن خطر الجمود والعقم هو الخطر الأكبر، الذي ينبغي التنبه إليه، وتحريك المسلمين وعلمائهم إلى خوض معركة التجديد وتحمُّل تبعاتها“.
ولا شك أن التطورات في عالمنا العربي، في ثمانينيات القرن الماضي، دفعت الكثير من المفكرين إلى معاودة الحديث عن أهمية العلاقة بين الفكر الإسلامي والتجديد؛ بما يؤسس لرؤية جديدة مع التغيرات والتحولات الفكرية، ولم تعد مسألة رفض التجديد مقبولة، وهي حالة تشّبث بها البعض لمواجهة ما سمي بأهداف أعداء الإسلام، لاجتثاث القيم والهوية، لكن الميلاد يرى أن هذه النظرة حصل تحول فيها؛ إذ ”تغيرت معه صورة العلاقة بين الفكر الإسلامي ومفهوم التجديد. وذلك بعدما شهد الواقع الإسلامي تطورات وتحولات وصفتها الأدبيات الإسلامية بالصحوة واليقظة، وأسهمت في تغيير رؤية الفكر الإسلامي لذاته، وتشكلت لديه رؤية جديدة إلى العالم، والى الواقع من حوله، مغايرة لتلك الرؤية التي كان عليها من قبل، ولم يعد مسكوناً بذهنية الخوف على الهوية، أو جامداً أمام مقولة الغزو الفكري، أو محاصراً لكونه في موقف دفاع عن الذات“.
ثم بدأ جيل جديد من الكتاب والمفكرين، له من الاهتمامات الفكرية تجاه الفكر الإسلامي، والبحث في مشروعات التجديد والاجتهاد، ومناقشة التراث ومساءلته فيما يحقق التجديد والنهوض للأمة يقول الأستاذ زكي الميلاد: ”ولعل من أبرز الملامح الفكرية التي ميزت هذا الجيل، ميله الواضح لنزعة التجديد في الفكر الإسلامي، النزعة التي بقي وما زال مسكونا بها؛ وذلك لقربه وتناغمه مع الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الفكر الإسلامي، التي تبرز حيوية الإسلام وقدرته على مواكبة العصر، والاستجابة لحاجات ومقتضيات المجتمع المعاصر، وتأكيد المنحى والمسلك الحضاري، وتبني نهج التواصل والانفتاح والتنوير، والتخلي عن التشبث بالماضي، والانغلاق على التراث، والانقطاع عن المعارف الإنسانية الحديثة“.
ومع ظهور ما سمِّي بالصحوة الدينية، خصوصاً مع الثورة الإسلامية في إيران، وتراجع اليسار، مع سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي، بدأت الاتجاهات الفكرية غير الدينية، أو الأصح من اللادينيين من الماركسيين وغيرهم، في الحديث عن ضرورة تجديد الفكر الإسلامي، وطبعاً بهدف طرح مفاهيم تقترب من الفكر الإسلامي، وقد أنشئت بالفعل مجلة تم تسميتها ب ”اليسار الإسلامي“، وصدرت في قاهرة المعز ”وهذا يعني - كما يقول الأستاذ زكي الميلاد - أن الاهتمام بهذا المجال عند هؤلاء، جاء طارئاً ودخيلاً، ولم يكن أصيلاً ومنسجماً في الغالب مع مسلكهم الأيديولوجي، ونهجهم السياسي، وطبيعة اهتماماتهم الفكرية، كون الدين ومسائله وقضاياه يمثل في نظرهم أو نظر بعضهم حذراً من التعميم، من موضوعات الماضي العتيق، وينتمي إلى عالم التراث الرتيب، ويصنف على مرحلة ما قبل تطور الفكر الإنساني نحو الوضعية العلمية والعقلانية، ولكون الحديث عنه أيضاً لا يثير الدهشة، ولا يبعث على اليقظة، ولا ينخرط في عالم الحداثة“.
لكن هذه الكتابات لم تجد لها صدى في الأوساط الفكرية أو الشعبية؛ لأن الأطروحات التي قدَّمها هؤلاء الكتاب، لا تختلف عن نسقها الفكري، عن هوية الأمة ورصيدها لفكري، بل إن البعض طرح فكرة القطيعة مع التراث الإسلامي، وهذه القطيعة يُراد منها أن نخلع فكرنا كما فعل الغرب عندما ثار على الكنيسة في القرن السابع عشر... إلخ.
ويرى الأستاذ الميلاد أنه ”عند النظر في هذا النسق من الكتابات، يمكن القول إنه لم يكن فاعلاً ومؤثراً في تحريك مسارات التجديد في الفكر الإسلامي، وينتمي لمنظومات مغايرة، هي على خلاف ونزاع فكري واجتماعي مع الفكر الإسلامي، ولأنه ينطلق من مقاصد وغايات تُفسَّر في داخل الفكر الإسلامي بطريقة تحجب عنها إمكانية التأثير، ويجري التعامل معها بطريقة سلبية ورافضة، وتصور بالعدائية، وأنها تأتي في سياق مواجهة الإسلام وإزاحته عن واقع وساحة الحياة“.
وفي فصل ”تجديد الفكر الإسلامي بعد صدمة الحادي عشر“ من سبتمبر 2001، ناقش الأستاذ الميلاد اهتمام الدوائر الفكرية الغربية والعربية، بقضية التجديد في الفكر الإسلامي، ومناقشة أسباب ما جرى للولايات المتحدة: هل هذا هو رؤية الإسلام تجاه الآخر المختلف؟ أم أن هذه المنظمة تحمل فكرًا مغالياً لا يتفق معه غالبية المسلمين؟ وبدأت الكثير من الاهتمامات لهذا الجانب".
لذلك - كما يقول الأستاذ زكي الميلاد - ”أصبح الإسلام والفكر الإسلامي في دائرة واهتمام العالم برمته، بكل ثقافاته وأديانه ولغاته، وبات الجميع يتحدث ويقرأ ويكتب ويناقش عنه، كما بات الشاغل الأكبر، والهم الأساسي في مختلف وسائل الإعلام، والنشر، والاتصالات المرئية والسمعية والمقروءة؛ وذلك بعد أن نسبت تلك الأحداث إلى جماعة تنسب نفسها للإسلام“.
ثم بدأ الأمر ينطلق بصورة مختلفة؛ من حيث اهتمام المؤسسات والأفراد، من المهتمين بالظاهرة الإسلامية، والنظرة بدأت تتوسع لقضية التجديد ”لهذا فقد تغيرت رؤية الفكر الإسلامي لمفهوم التجديد، وطريقة التعاطي معه، وأصبحت القناعة بهذا المفهوم جادة وفعلية، وأخذ يشكل حاجة وضرورة لمواجهة نزعات التشدد والتطرف والتعصب، الوضع الذي كان يفترض أن يقود الفكر الإسلامي المعاصر إلى أعظم مراجعة تاريخية ونقدية ينهض بها للنظر في واقع ومصير ومستقبل العالم الإسلامي، وعلى أساس المدة الطويلة للتاريخ حسب نظرية المؤرخ الفرنسي فرنارد بروديل، وذلك بحثاً في الجذور، وتوغلاً في الكشف عن الأسباب البعيدة والتاريخية“.
وفي فصل ”رؤيتي في تجديد الفكر الإسلامي“، يتحدث الأستاذ الميلاد عن كيفية تحقيق هذا الأمر كما يراها، بطريقة فاعلة، وليس كلاما إنشائيا عابرا، فيرى أنه ”لا يتحقق التجديد في الفكر الإسلامي بطريقة المعادلات الرياضية الباردة، أو بطريقة القوانين العلمية الصارمة، ولا بطريقة آلية ميكانيكية جامدة، كما لا يتحقق التجديد من فراغ، أو بدون مقدمات وشروط، ولا بطريقة فورية، أو بمجرد التعبير عن الرغبة فيه، ولا بكثرة الحديث عنه، فالحديث عن التجديد ليس تجديداً بالضرورة“.
وناقش الميلاد من خلال رؤيته في تجديد الفكر الإسلامي أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال النظرة الواعية لقراءة التراث العربي؛ فالتراث الذي يعيش فينا لا بد من إعادة النظر إليه ”في إطار جدلية التراث والمعاصرة، بمعنى أن التجديد في الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتحقق بدون إعادة قراءة التراث من جديد، وبمنهج العقل النقدي، وعلى أساس فلسفة التواصل وليس الانقطاع، وبخلفية الهضم والاستيعاب، وسعياً نحو التجاوز والإبداع. كما لا معنى للتجديد، إذا لم يبدع الفكر الإسلامي معاصرته وحداثته في إطار شروطه التاريخية والثقافية، ويبرهن على قدرته في مواكبه العصر، والانخراط في تجربة الحداثة العالمية، والمشاركة في إنتاج المعرفة الإنسانية“.
ولا شك أن الأستاذ زكي الميلاد، استوفى في طرح هذا الجانب المهم، بصورة تعدت الكثير من الأطروحات التي ناقشت قضية التجديد في الفكر الإسلامي، وبصورة شاملة وكلية، من حيث تحليل الواقع العربي الإسلامي الراهن، منذ أن بزغ الحديث عن أهمية وضرورة التجديد، خصوصاً وأن الأستاذ الميلاد ركز على قضية المنهجية والعلمية في طرح قضية التجديد، إلى جانب بسط الرؤى التي تسهم في أفكار نيّرة ومتوازنة، ومنها التفاعل مع العصر ومستجداته، دون التفريط بالتراث - وبحسب الأستاذ الميلاد - ”لا يمكن أن نواجه علوم العصر بعلوم التراث، كما لا يمكن أن نواجه علوم العصر بالتخلي عن علوم التراث، وهذا ما يريد أن يدفعنا إليه البعض على خلفية أن من دون التخلي عن علوم التراث لن نقترب من علوم العصر، وهذا هو الوهم بعينه، فليست هناك أمة حية تقطع صلتها بذاكرتها، وتفصل نفسها عن تراثها، وتمحي علاقتها بتاريخها“.
وهذا القول الأخير هو زبدة رؤية الأستاذ المفكر زكي الميلاد في هذا الكتاب، من حيث الموازنة الحصيفة بين الانفتاح على العصر وعلومه الجديدة، وتحولاته الفكرية، وبين الأخذ والاستفادة من تراثنا الضخم، مع ضرورة التجديد باعتباره سنة كونية وطبيعية في حياة الأمم، وهذا ما فعلته الكثير من الحضارات والثقافات، عندما تعرفت على حضارات الشعوب الأخرى، من خلال الفرز والانتقاء، بما يحقق نهضتنا وتقدمنا، وليس القطيعة والارتماء في فكر الآخر وثقافته.