آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

الاستغراب

وديع آل حمّاد

متى يعيش القارئ حالة من الالتباس والتشويش والإبهام في عالم المعرفة؟

لطالما يطالع القارئ مصطلح يتسم بالجدة والفرادة، ولكن يفتقر في البدء إلى إطاره الدلالي، فيكون في حالة لبس وغموض وإبهام إلى أن ينفتح المستغلق.

في منتصف التسعينات من القرن الماضي _ كما أتذكر _ عندما طرق سمعي مصطلح الاستغراب لأول مرة _ ولم أكن على إحاطة بدلالته لافتقاري لسعة القراءة في هذا الجانب من الحقول المعرفية آنذاك _ ففسرته تفسيراً خاطئاً يتعارض مع دلالته الحقيقية، إذ أعتقدت بأنه مرادف لمصطلح التغريب، أي الانصهار في بوتقة الغرب معرفياً وفكرياً وثقافياً وعقدياً وتراثياً وحضارياً.

وهذا الخطأ في الفهم الدلالي لهذا المصطلح ولد في نفسي موقفاً سلبياً من المفكر الدكتور حسن حنفي، حيث ظننت بأنه يدعو إلى التغريب، والواقع أن العكس صحيح، بل كان يدعو الطاقات الفكرية في الشرق إلى العمل الجاد على بلورة علم الاستغراب المقابل للاستشراق، ويستنهض قواهم ويشحذ همهم لتحمل المسؤولية، ويحثهم على بذل الجهود الفكرية والمعرفية، وابتكار أدوات منهجية تسهم في بلورة هذا العلم.

ومن أجل ألا يعيش القارئ لهذا المقال _ الذي يسمع لأول مرة هذا المصطلح _ الحالة التي عشتها من اللبس والإبهام والغموض اتجاهه، وتفسيره تفسيراً مغايراً للمراد منه، يتوجب علي إبراز المراد منه، فماذا يراد بالاستغراب؟

الاستغراب: مصطلح له دلالته في عالم الفكر والمعرفة، وهو مقابل للاستشراق، ويعني: علم معرفة الغرب، أي دراسة المناهج الفكرية وروافد البنية المعرفية والأنساق الثقافية والأيديولوجية العقدية والأصول التراثية والأسس الحضارية والمرتكزات التاريخية والقواعد القيمية والأخلاقية للغرب من موقع الناقد لا من موقع التابع. يقول الدكتور حسن حنفي عن الاستغراب: «أنه محاولة دراسة الآخر من منظور الأنا»، أي دراسة تراث الغرب ومعارفه وأسسه الحضارية والثقافية من منظور شرقي.

بعد أن عرفنا المراد من الاستغراب، نطرح التساؤل التالي:

ما هي المرتكزات التي يرتكز عليها لنجاح مثل هذا المشروع الفكري المعرفي الضخم ألا وهو تبلور علم الاستغراب؟

نجاح هذا المشروع يعتمد على دوائر ثلاث، هي:

الدائرة الأولى: موقفنا من تراثنا:

في هذه الدائرة تكون الأنا في مواجهة الأجداد والأسلاف، والحاضر في مواجهة الماضي. في هذه المواجهة نحن أمام خيارات ثلاث وفق الحصر العقلي:

الخيار الأول: الانسلاخ من الماضي البتة.

الخيار الثاني: التبعية للماضي وعدم الانسلاخ منه بتاتا وعدم تجاوزه قيد أنملة.

الخيار الثالث: القراءة النقدية الموضوعية المتزنة لتقييم الماضي وتراثه.

ليس بالإمكان تبني الخيار الأول لأن الانسلاخ من الماضي كلياً، يعني ضياع الهوية الذاتية الثقافية والأيديولوجية والعقدية والحضارية والمعرفية والأصول التراثية والتاريخية، وذوبان الكينونة في كينونة آخرى، وهذا يفضي إلى تبعيتنا للحضارة والثقافة المركزية الغربية الساعية إلى الهيمنة على بقية الحضارات والثقافات المختلفة، بحيث يعيش العالم ثقافة أحادية، بدلاً من تعدد الثقافات والحضارات.

وكذلك ليس بالإمكان قبول الخيار الثاني، وهو التبعية المطلقة لتراث الآباء والأجداد، دون تمحيص أو تدقيق أو تهذيب أو تشذيب، «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا»، لأن السير في هذا الخيار يعني الجمود والسكون وعدم القدرة على مواجهة التحديات الفكرية والمعرفية والثقافية الراهنة، وعدم مواكبة متطلبات العصر، وأيضاً تهميش للذات وإلغاء للعقل، وتنمية لنزعة التقليد وقضاء على روح الإبداع، يقول ابن عبد البر في ذم التقليد والمحاكاة الفكرية:

يا سائلي عن موضع التقليد وخذ

عني الجواب بفهم لبٍ حاضر

واصغ إلى قولي ودن بنصيحتي

واحفظ علي بوادري ونوادري

لا فرق بين مقلد وبهيمة تنقاد بين جنادل ودعائر

فإذن لم يتبق لنا سوى القبول بالخيار الثالث، وهو قراءة الماضي بما يحمل من معارف وتراث وقيم أخلاقية وأيديولوجية عقدية ومناهج فكرية قراءة نقدية جادة عميقة، نستفيد منها في بناء الحاضر ونؤسس بها إلى المستقبل.

الدائرة الثانية: موقفنا من التراث الغربي:

في هذه الدائرة تكون الأنا في مواجهة الآخر، أي في مواجهة الحضارة والثقافة الغربية. وفي هذه المواجهة، نحن أمام خيارات ثلاث:

الخيار الأول: معاداة حضارة وثقافة الآخر واتخاذ موقف سلبي منها.

الخيار الثاني: التبعية المطلقة العمياء لحضارة وثقافة الآخر.

الخيار الثالث: القراءة النقدية لثقافة وحضارة الآخر من منظور الأنا.

ليس بالإمكان قبول الخيار الأول، الذي هو خيار من يحمل في أحشائه هواجس ومخاوف التجديد والتطوير، لأن تبني هذا الخيار يتعارض مع الرؤية القرآنية التي تحث على التعارف بين الشعوب، «إن جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». إضافة إلى أنه يبقي الأمة في حالة تقوقع على ذاتها، وعدم الانفتاح على نتاجات الآخر المعرفية والفكرية، وهذا يؤدي إلى التكلس والجمود والتقهقر إلى الوراء وانعدام القدرة على السير إلى الأمام.

فهؤلاء الذين يتهيبون التجديد والتطوير ويريدون بقاء الحال على ما كان تحت ستار المحافظة على الدين والهوية والحضارة والثقافة يقدمون خدمة مجانية لمن يتربص بنا شراً.

فمعاداة الآخر ليست حلاً ناجعاً للمحافظة على الهوية والحضارة والثقافة والتراث والقيم، بل الحل الناجع يتمثل في العمل الدؤوب والجهد المتواصل لإحياء حضارتنا وقيمها ومعارفها.

وكذلك ليس بالإمكان قبول الخيار الثاني وهو التبعية العمياء للآخر، إذ هذا الخيار لا يقل خطورة وسلبية عن الأول.

ويتبنى هذا الخيار من يعيش صدمة حضارية وفقدان التوازن الموصل للغيبوبة الفكرية، وحالة انبهار لمنجزات حضارة الآخر المادية، فلا يرى ذاته إلا من خلال ذوبانها في المنظومة الفكرية للآخر. وهذا هو الاستلاب الفكري الذي منشؤه عقدة الدونية التي تفضي بالمرء إلى التطلع إلى المثال المحتذى في نظره، المتمثل في النموذج الثقافي الفكري المعرفي الغربي.

وإفرازات الاستلاب الفكري ليست بخافية على من يملك لب، أبرزها تخلي الإنسان عن كيانه وهويته ومحتواه الذاتي، المتمثل في عقيدته وتاريخه ومعارفه وقيمه، بحيث يعيش حالة من التسليم والخضوع لما تقرره تلك الحضارة المركزية الغربية، التي ترى في نفسها رقماً متمايزاً عن سواها. والإنسان الذي يعيش حالة التسليم والخضوع لما تفرزه وتقرره تلك الحضارة المركزية، يعمل على قتل ذاته _ التي يفترض أن تكون منتجة _ وينمي في داخله نزعة الاستهلاك، أي تتحول ذاته إلى ذات مستهلكة بدلاً من أن تكون منتجة.

فإذا كان الخياران الأوليان ليس من المقبولية بمكان، لم يتبق لنا إلا الخيار الثالث وهو القيام بقراءة نقدية لثقافة وحضارة الآخر من منظورنا وليس من منظوره.

ومن أجل أن نمضي قدماً في الخيار الثالث ونحقق ما نرجوه من ثمرات، علينا الاتصاف بالثقة بالنفس وتحمل المسؤولية، والنأي عن روح الانهزامية، وعدم الشعور بعقدة النقص والدونية. بهذه المقومات نستطيع قراءة الآخر من موقع الاستقلالية، أي نقرأه من منظورنا وليس من منظوره، وبالتالي تكون صورته كما رأيناه، وليس كما يريدنا أن نراه.

وتموقعنا في قراءة الآخر على قاعدة الاستقلالية الصلبة، وقراءتنا له من هذا الموقع، يجعلنا نستفيد من منجزات الآخر المادية والفكرية والمعرفية والثقافية استفادة العارف المختار لا التابع المنقاد.

وللحديث بقية في المقال القادم.