طوبى للزاهدين
ما هي حقيقة الالتصاق بالدنيا والشغف بزينتها، والتي تعد مقتلا ومهلكا لكثير من عشاقها والراغبين في نيل شيء من زخرفها، مع علمهم بأنهم ما يلبثون قليلا إلا ويرحلون عنها مخلفين كل ما اقتنوه؟
الزهد يرتبط بمفهوم وحقيقة الحياة الدنيوية وما بعدها، فأهل الدنيا أعمت بصيرتهم الشهوات والنزوات فلم يروا مصيرهم وقد ارتحل أحبابهم وأهلهم، فعملوا وكأنهم يخلدون ويعمرون فيها فلا يلحقهم الرحيل يوما ما، إنه حب الدنيا الذي أعماهم عن حقيقة الإقامة المؤقتة والانطلاق بعدها نحو الحياة الخالدة، والتي يقبلون عليها خاليي الوفاض من العمل الصالح، وأنى لهم والفلاح وقد خربوا آخرتهم بما اقترفوه من معاصي، فيا لسوء المنقلب والحساب!!
الزهد قيمة معنوية وليس بقشور مادية لا تمت بتأثيرها للوجدان، فتبقيه يقظا وحذرا من الوقوع في مطب حب الدنيا، فالبعض يحسب أن الزهد هو مظاهر البساطة في المأكل والملبس والمسكن، وتخل عن كل توسع في المعيشة أو رفاهية فقط، دون وجود ومضة تطلع للآخرة والعمل لها، بل الزهد الحقيقي هو فهم واقعي لحقيقة وجود الإنسان في الحياة، ومدى استثماره للعمر المكتوب له في بناء سيرة صالحة عامرة بالأعمال الخالصة لوجه الله تعالى، ولا يرى في هذه الدنيا سوى مستراح وجسر ينطلق منه نحو العبور للمقر الأخروي الخالد، ولذا لا تتعلق نفسه بشيء زائل ويرحل عنه عما قريب.
فما فاته من حظوظ الدنيا لم يقف عنده نادبا حظه ومستفرغا مكنون نفسه من الهموم والأحزان، ليقينه بأن ما هو مقدر له مكفول عند الرزاق عز وجل، وما يستقبله من الأيام ويجهل فيها ما يواجهه، يقدم فيه الثقة بالله تعالى ونفسا تحمل ما بين جوانحها أملا وطموحا في تحقيق ما يريد، وإن داهمته الصعاب والتحديات قابلها بالصبر والتحمل، وهذا سر الطمأنينة والقوة في نفس الزاهد إذ يحمل فكرا نيرا وإرادة تحكم وتضبط مشتهياته وغرائزه ً.
كما أن تطلعه الأخروي الدائم صرف وجهه عن التعلق بحطام زائل، فيكفيه أقل الزاد ليشبعه وبسيط الملبس ليستر عورته والمسكن الملائم ليقيم فيه؛ ليتفرغ للعبادة وملازمة الذكر وتلاوة القرآن الكريم، فأنسه الحقيقي وثروته ما يحنك به عقله من وعي فكري ورشد بالحقائق والقيم الدينية والإنسانية وآفاق المعرفة والثقافة، فكل يوم من عمره يحتوي إنجازا وخطوة متقدمة في تطوير قدراته.
وأما سلوكه وتعامله مع الآخرين فيتسم بالحسن والطيب بعيدا عن المشاعر السلبية والكراهية، ولا يقابل الإساءة بمثلها بل يدفع الشر والعدوان من نفوس الآخرين بتسامحه وتجاوزه عمن أساء له.
الزهد في الدنيا لا يعني لتخلي عن مباهجها وأسباب الرخاء والتقدم فيها، فالعمل الأخروي ميدانه الحياة الدنيوية، ولذا فالمؤمن الزاهد صاحب عمل مثابر وطموح ينفذ من خلاله ما يصبو إليه من أهداف وغايات.