ثقافة التلقين
العقل العلامة الفارقة بين الانسان، وبقية مخلوقات الله، فهذه النعمة الكبرى، التي منحها الخالق بني البشر، تجعله قادرًا على اختيار الطريق الصائب، وكذلك تدفعه للتفكير في الاستفادة، من الموارد الطبيعية، بما يعود عليه بالمنفعة، والفائدة في المسيرة الحياتية، الامر الذي يتجلى في مختلف العلوم، التي سجلت تطورا مذهلا على مر العصور.
عملية الاستفادة من نعمة العقل، تختلف من شخص لآخر، فالبعض يعمل جاهدا على التفكير، في تطويره ذاته، والنهوض بالمجتمع، بما يحقق المزيد من الازدهار والتقدم، فهذا الصنف لا يدخر جهدا، في تسخير جميع الإمكانيات، وعصارة التفكير، لتمهيد الطريق امام الاخرين، لتجاوز جميع العراقيل، التي تحول دون اعمال العقل، بما يعود على البشرية بالفائدة، ”فاعتبروا يا أولي الالباب“، بمعنى اخر، فان عملية الاستفادة من القدرات العقلية، مرتبطة بوجود محرك داخلي، يدفع باتجاه العمل الدائم، لايجاد الحلول المناسبة، للعديد من الأسئلة الحائرة، الامر الذي يقود للمزيد من التقدم، وتحقيق الإنجازات العلمية، بمختلف الاصعدة.
بينما يفضّل البعض الاخر، ترك الغبار يعلو على النعمة الممنوحة من الخالق - العقل -، مما يجعله غير قادر على تقديم خدمات لذاته، فضلا عن المجتمع، اذ يعتمد على الفتات التي يقدمه الآخرون، الامر الذي يحول دون صقل شخصيته، او تقديم صورة مشرفة، بحيث يتحول الى شخص هامشي، وعبء على المجتمع، ”همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم“.
غياب إستقلالية القرار، تمثل احدى الأسباب، وراء تغليب التلقين على التفكير، فالبعض تغلب عليه حالة الانبهار، والإعجاب ببعض الشخصيات، الامر الذي يدفعه لاتخاذه مثالا يحتذى في جميع الأمور، مما يحجب عنه التداعيات، والعواقب الوخيمة الناجمة، عن السير الأعمى على غير هدى، وبالتالي فان محاولة الانفكاك، والتخلص من تبعات التقليد الأعمى، ليست بالسهولة، نظرا لسيطرة بعض سلوكيات التقليد، على الشخصية، سواء الصعيد الشخصي، او الاجتماعية، مما يتطلب إرادة قوية، واعادة صياغة شاملة، للمنظومة الثقافية، والفكرية، وكذلك التركيبة الشخصية، بشكل عام.
ثقافة التلقين مرتبطة كذلك، بالمحيط الاجتماعي السائدة، فالمجتمع الذي يقدس حرية التفكير، ويشجع على الإبداع، وكسر طوق الانغلاق، يمثل بيئة صالحة لضرب مختلف انواع التلقين، الامر الذي ينعكس بصورة مباشرة؛ على الحراك العلمي والثقافي، فهذا المجتمع يعيش حالة من التجديد، والانبعاث على الدوام، بمعنى اخر، فان هذه النوعية من المجتمعات توصف بالحياة، فيما المجتمعات الاخرى التي تحارب الإبداع، وترفض التجديد، وتطرد العقول المبدعة، تتسم بالتخلف، والسير في مؤخرة الركب على الدوام، خصوصا وان الثقافة السائدة في المجتمعات المتخلفة، او الميتة تنطلق من مقولة ”أنا وجدنا آباءنا على امة وأنا على آثارهم مقتدون“، الامر الذي يسهم في تدمير حالة التفكير، ويمنع الاستفادة من العقول، التي منحها الخالق الانسان، بما يعود عليه بالخير الكثير.