آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 4:17 م

اقتصاد والدي

المهندس هلال حسن الوحيد *

توفي والدي عام 1405 هـ جرية وكان يجري في شرايينه حبان! البحرُ والنخيلْ. لم يكن غنياً، وكما جُلَّ آبائكم، لم يستطع الجلوسَ بدون عمل ولم يأخذ إجازةً سنوية، مدفوعةَ التكاليف، للتنزه في الشانزليزيه ولكنه تمكن من حملِ أعباءِ إعالةِ وتعليمِ ما لا يقل عن خمسة عشر فرداً.

يأتي ليلُ الشتاءُ ببرودتهِ، تنامُ عياله ويبقى ساهراً ينظرُ إلى القمرِ ليعرفَ متى يكونَ البحرُ هادئاً بما يمكنه من مقاربته وجنيِ ما يقدمهُ بسخاءٍ أحياناً ولا شيءَ في أحيان كثيرة. كان يحكي لنا قصصاً عن الغوص والجاروف ورياح البحر العاتية ومن ابتلعه البحرُ ولم يُرَ لهُ أثرْ ومن عادَ متاعهُ ولم يعدْ بعد أن رموا جثته في البحر لطول المدة ولكنه كان يعرفُ أن البحرَ كريمٌ على مدارِ السنة وكان يعرفُ أن السمكة التي يصطادها تنفعُ ولو بعد حين، فقط بقليلٍ من الملحِ والحبال.

يدخل البيتَ فجراً خلسةً حتى لا يوقظنا. يدفئُ أطرافهُ ويُغلقُ جفنيهِ قليلاً ليهبَّ من نومه قبلَ أن تستيقظَ الشمسُ لبيعِ الحصاد وفي الاوقاتِ التي يحصلُ على سعرٍ عالٍ كان يبيع السمكَ ويشتري إداماً آخر أقلَّ ثمناً حتى يتمكن بالباقي من شراء حاجيات العيالِ والمدارس فلا يهمه إن كان بحاراً ولم يأكل السمكَ لفترةٍ ما فللضرورةِ أحكامها.

يكبرُ النهارُ فتخاله يحتاج إلى قيلولةٍ كما يوصي الأطباءُ والمترفون ولكن كلاَّ فالحِملُ ثقيل وقد حان وقتُ النخيل. لم يملك مزارعَ ولكن كان يستأجرها بمبالغَ مالية وجزأً من محصولها يدفعهُ للمالك الذي قد يطلب منه أكثر مما قد يستطيع دفعه أحياناً. كانت النخيلُ توفر المصدرَ الآخرَ للدخل والغداء فمن عنده تمرٌ كان يخزنه بقية السنة فلا يجوع. نارُ التنورِ تتوقدُ في المساءِ شتاءً، نتحلَّقُ حولها صغاراً ويصادف قدومه أحياناً من البحرِ والسمكُ لا يزال حياً فتُخرجُ امِّي أجودَ أنواع التمر من المخزن وما علينا سوى الانتظار قليلاً حتى نشبع.

كَبُرَ الوالدُ وكبرنا ورجوناهُ مراراً أن يستريحَ أو يشتغلَ بشغلٍ آخر غيرَ ما اعتقدنا أنه عناء فأبى، وبعدها مرضَ ومات ولكن اقتصادهُ وطريقة معيشتهِ مدرسةٌ تَنبعثُ حَيَّةً اليومَ في ظروفٍ اقتصادية لم يرها أحفاده.  تعلمنا من مدرسةِ اقتصاده الكثير. تعلمنا أن البحرَ والنخلَ كانا يرمزانِ لمصادرَ دخلٍ مستدام وغير محدود ولكن عليك أن تحافظ عليهما. تعلمنا أن وفرة الشيء تعني أنك ستحتاجه في وقتٍ آخر فعليك إيجاد الطريقة المناسبة لادخاره. تعلمنا أن الفقر والغنى لا يدومان. تعلمنا أنه لو خيَّرك الدهرُ بين جوعِ عيالك أو تعليمهم فاختر الثاني. تعلمنا أنه إن ضاقت الأرضُ فالبحرُ أوسعُ. تعلمنا الكثير ولكن أهم ما تعلمناه أن الرزق وسعتَه لا يأتيانِ بالكسل.

سأزورهُ يومَ الجمعة وأشكرهُ على دروسه وأقولُ له ما لم أفهمهُ بالأمسِ فهمتُهُ اليومَ وسأعلمهُ لأبنائي؟ رحم الله أبي وآباءكم.

سأزورُ رِمَّته وأذكرُ عهدهُ

قد كان من ضنكِ الزمانِ يقيني

 
 
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 22 / 12 / 2017م - 1:05 م
عيشٌ ضيق لكنه اتسع بروح الجلد والصبر ، وجسدٌ هزيل لكنه آثر أن يستلذ بعطاء الأرض حتى آخر رمق .
رحم الله والدك .
مستشار أعلى هندسة بترول