التنشئة الحوارية
إذا كانت ظاهرة العنف ظاهرة تاريخية ومتجذرة في الثقافة العربية، كما تمت الإشارة إلى ذلك في مقالة سابقة، فإن تفكيكها أيضاً يتطلب عمل تاريخي وجذري يبدأ من خلال نشر ثقافة الحوار وآدابه بين الأبناء الصغار، وتعليمهم قيم النقاش وأساليب الحوار، وتنشئتهم منذ نعومة أظافرهم على قيم التعدد والاختلاف والتسامح وقبول الآخر والرأي والرأي الآخر واحترامه، بعيداً عن أي عنف لفظي أو جسدي يكسر شوكتهم، ويُهين كرامتهم. فالعنف أياً كان شكله ونوعه يؤثر في الصحة النفسية للأبناء، ويؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس، والميل نحو الانعزال، وضعف الاعتماد على الذات، وضعف الضمير، وكراهية الأسرة والمجتمع، ويزيد من السلوك العدواني العنيف عند الوصول إلى سن البلوغ.
فحين يتعرض الطفل للعنف المستمر يترسخ لديه بأنه من الوسائل المقبولة في حل المشكلات، حيث ينعكس في سلوكه، ويصبح جزء من شخصيته، ”فكلما تعرض الطفل للضرب من الآباء أو الآخرين، أدى ذلك إلى جعله أكثر عنفاً وقسوة مع المحيطين به، ويظهر ذلك جلياً في علاقته بزملائه من الأطفال، حيث يشتكي منه الكثير بسبب حالة العدوانية التي أصبح عليها. وغالباً ما تطلب المدرسة أو الحضانة حضور ولي أمر هذا التلميذ؛ لتبلغهم أن هذا الطفل يتعامل بعنف زائد وعدوانية مع أقرانه من الأطفال. وأثبتت بعض الدراسات الحديثة أن الطفل لا يفهم ولا يدرك لماذا يتعرض للضرب من أمه أو أبيه أو أخيه أو الآخرين؟، ولا يستطيع تفسير ذلك، فهو ما زال في مرحلة النمو العقلي، ولم تكتمل أركان كثيرة في إدراكه لأفعال الآخرين، أو أن الضرب كان لسبب بعض الأخطاء التي وقع فيها. وكشفت دراسة وجود ارتباط كبير بين سلوك العنف في الصغر والعنف في الكبر، بل ووجدت الدراسة أن معظم المجرمين الذين يرتكبون الجرائم، كانت لهم حوادث تعرض للضرب في مرحلة الطفولة، ومعاملة تصل إلى حد العنيفة من الآباء“. [1]
لذلك فإن طبيعة الآداب والقواعد والقيم والمفاهيم والسلوك التي ينشأ عليها الطفل داخل الأسرة تساهم في تشكُّل شخصيته، وتنعكس في سلوكه وأقواله وحواراته، ويتعود على ممارستها مع أقرانه، وتصبح جزء من شخصيته وكينونته في كبره وطوال حياته. وعلى هذا الأساس من المهم ترسيخ الآداب والقيم الإيجابية منذ الصغر، والبدء في زراعة وتنمية الثقافة الحوارية وآدابها منذُ الطفُولة، على حد قول يوسف بخيت، وذلك من خلال ”تربيةِ النشءِ على القيمِ الإنسانيةِ كالصِّدقِ والعدلِ والأمانة والنظامِ والإخلاص والإتقان، إلى آخِر تلك القِيم. وهُنا يأتي الدورُ العظيمُ للمنزلِ والمدرَسةِ في تربيةِ الطفلِ على احترامِ أذواقِ الآخرين فيما ارتضوهُ لأنفسِهم، والوقوف حيث تبدأُ حدودُ حريتِهم، مع إيضاحِ أنّ لهُ الحقَّ في التعبيرِ عن رأيِهِ بأدبٍ لا يتجاوزُه إلى إهانةِ الغيرِ أو تحقيرِه فيما اختارَ مِن أفكار أو أشياءَ مادّية“. [2]
إنّ الأساليب الحوارية لها أثرها الفعال والأساسي في عملية التنشئة، فهي تبني شخصية الطفل المتميزة، وتنمي ذكائه وتثري فكره، وتنظم سلوكه وعواطفه، وتهيئ له الطريق لتحقيق صلاحه ونجاحه في حياته. فالتنشئة القائمة على قيم المحبة والتسامح والتعدد وقبول الآخر واحترامه، تعزز شعور الطفل بالأمان والثقة بالعالم المحيط به. فنمو الطفل في جو مفعم بالمحبة والحنان ينمي ثقته بنفسه، ومقدرته على مواجهة شروط الحياة، ما سهُل منها وما قسى على حد سواء.
وعلى هذا الأساس فإن الأطفال الذين ينشؤون ويعيشون ويترعرعون في ظل عوائل تتبع الأساليب الحوارية في علاقتها، يمكن لها أن تسهم بشكل إيجابي جداً في تطوير قدرات أبنائها الذهنية. فالحوار معهم يزيد في ذكائهم وقدراتهم الذهنية، وينمي معارفهم، ويعرفهم بما يدور من حولهم. لذلك فإن من مسؤولية الأسرة/العائلة تقوية أساليب الحوار مع الأبناء، وتشجيعهم على التحدث والكلام والمشاركة في الحوارات، كي تتطور قدراتهم ومهاراتهم وتتطور بالشكل السليم، حيث أن الملكات الحوارية تنمو مع الممارسة ومرور الوقت، وتتطور إلى ما بعد مرحلة الطفولة.
وتلفت الاختصاصية النفسية ميساء إبراهيم إلى أن ”الطفل الذي ينشأ في أسرة مترابطة، ويتحدث أهلها كثيراً فيما بينهم، ويتناقشون في مختلف الأمور الاعتيادية، مع وأمام طفلهم، فإن مستوى ذكائه وقدرته على تحصيل العلم أعلى بكثير من الأسرة المفككة الصامتة، التي لا تعطي طفلها فرصة المناقشة والكلام“.
وتؤكد ميساء إبراهيم على ”أن يشارك الطفل في الحوار ولو بكلمة، وأن يسمح له بأن يُعبِّر عن رأيه. إلا ان الأسرة التي تمنع الطفل من المشاركة في الحوار، وطرح الرأي، لأنه صغير، ولا يفهم شيئاً، وتكثر من تأديبه على كل ما يقول، بدلاً من تشجيعه، فإنها تُحوِّل صغيرها إلى طفل منطوٍ، حتى في المدرسة، نتيجة لإحساسه بالنقص، وعدم القدرة على الحوار. وهذه سلوكيات غير منطقية تصدر من أولياء الأمور، وتربك الطفل، وتجعله غير سوي. ويجب أن تتجه الأم لتقوية حديث الطفل، ومحاولة تنمية قدراته العقلية والاجتماعية والنفسية، كي لا يتردد في التحدث عندما يرغب في ذلك. والحوار لا ينشأ تلقائياً، بل هو نتيجة تفاعل علاقة الأم مع طفلها، ويصدر من البيئة ذاتها“. [3]
خلاصة القول إن من واجب الأسرة الاهتمام بتنمية الثقافة الحوارية لدى أطفالها في مراحل مبكرة من أعمارهم، وتثقيفهم بأساليب الحوار المقبولة، وتنمية المهارات الحوارية لديهم، وتعليمهم التعبير عن آرائهم بالطرق المناسبة. فمن حق الطفل في كل أسرة أن يحضا بنظرة احترام من والديه، وتقدير إمكاناته ومواهبه وقدراته، والعمل على تطويرها، والاعتراف بحقوقه وواجباته بين أفراد أسرته، وعدم سلبه استقلاليته، وافساح المجال له كي يبدي برأيه، وتشجيعه على المشاركة في الحوار باستشارته، وأن تكون له مساهمة في صنع القرار، وامتداح مشاركته، وتقدير رأيه، لأن كل ذلك يعزز ثقته في نفسه، ويزيد قدرته على مواجهة المواقف الصعبة في حياته.
غير أن نهيه عن الكلام، أو التعبير عن رأيه، ومنعه عن المشاركة في الحوار بتوبيخه وإهانته، وإجباره على الصمت والسكوت، لن تنتج إلا شخصية مهزوزة وانهزاميه ومترددة ومنطوية على ذاتها ليس لها القدرة على مواجهة تقلبات الحياة، والتعامل مع تحدياتها وصعوباتها بثقة واقتدار.